الطعام في الأدب وعلاقته بالهوية الإنسانية

بقلم/ لنا عبدالرحمن

تركز الكتب التي تتناول المائدة على البعد التاريخي والجغرافي للطعام، كأداة اتصال بين الحضارات، ولغة عالمية لفهم التناقضات الإنسانية، بين الفقر والثراء، بين التقليد والحداثة، بين الحرمان وبذخ الاحتفال. كل هذا يكشف عن دور المائدة كمكان يتجاوز الأكل فحسب، ويجسد مسرحاً لتاريخ الإنسان في علاقته بالطعام ومرآة للمجتمع، تعكس الحقائق من خلال أبسط ممارسة يومية يقوم بها الإنسان، وضمن أكثرها ضرورة.

وقود الحياة

الكتاب الاول (نيل وفرات)

يقتفي الباحث ياسر ثابت في كتابه “ثورة المائدة” علاقة الإنسان مع الطعام عبر قرون ممتدة، إذ يرى أن ثمة علاقة من الحب والألفة واللذة تمتد وتنشأ في المطبخ، حيث الحكايات والأسرار والتجارب تشكل الموائد، وتقدم للإنسان وقود حياته، من أجل تحقيق التوازن النفسي والجسدي اللازمين لكل إنسان.

يتداخل تاريخ الطعام مع الجغرافيا والثقافة والاقتصاد والتطور الاجتماعي، إنها العوامل التي أثرت بصورة مباشرة في تطور ذائقة الإنسان، وجعل كل بلد، على هذه الأرض التي ننهل من خيراتها، تختار طبقاً شعبياً، أو أحد التوابل، أو المشروبات، كي يصبح لصيقاً بهويتها. يقول: “لقد تجاوزت الدول النظر إلى الغذاء كأداة للوصول إلى قوة الجسد ودعمه عبر وجبة متكاملة متوازنة إلى ما هو أكثر شمولاً، إذ أصبح يمثل نوعاً من النفوذ المادي والهيمنة عبر استغلال أطباقها الشهيرة في الرواج الثقافي والسياحي للبلد. على امتداد قرون، تواصل الناس عبر موائد الطعام، واستغلوا فترات تناول الطعام للوصول إلى أهداف سياسية”.

اعتمد ثابت في كتابته على تقسيم الكتاب إلى فصول صغيرة، يتتبع من خلالها رحلة طبق ما، حضوره التاريخي، وتحولاته الاجتماعية بين الشعوب، يحكي عن “الملوخية” طعام الملوك، وسبب تسميتها، وما يرافقها من طقوس، واختلاف طرق الطهو بين مكان وآخر. يحكي عن الفتة والشاورما والفول، وعن الحمص والمنسف والبيتزا، وحدوث صراع الهويات، وموكب البقلاوة ودبلوماسية الطعام، وعن طبق “الدولمة” وأسرار المطبخ العثماني، الذي يصفه بأنه “كنز”، فهو نتاج ميراث إمبراطورية عظيمة امتدت لأكثر من 600 عام، لكن للأسف يكشف الباحث عن أن كثيراً من وصفات هذا المطبخ، ضاعت بسبب حرص الطهاة على الاحتفاظ بوصفاتهم، وإبقائها طي الكتمان.

الكتاب الثاني (دار الكتب خان)

ويستدعي الكاتب الرواية، في فصل “على مائدة نجيب محفوظ”، ليحكي عن المسارات السردية للأحداث، وما نتج من توظيف الطعام من مفارقات في العادات والتقاليد، يكشف عن وصف محفوظ لمائدة الطعام في “الثلاثية”، والاختلافات الطبقية والثقافية بين العائلات. يقول: “تمكن نجيب محفوظ من بناء مفارقة فنية بين كمال بن السيد أحمد عبدالجواد، وساكن البيت القديم بين القصرين بحي الحسين الشعبي، وبين صديقه حسين بن شداد بك، ساكن السراي بحي العباسية الأرستقراطي، وذلك عندما جعل الراوي يصف مشهداً سردياً مطولاً يلعب فيه الطعام دوراً فنياً مهماً في تجسيد الفارق الطبقي والسلوكي بين العائلتين. نقرأ من الثلاثية: بيد أن زينب اقترحت يوماً أن تصنع الشركسية، باعتبارها الصنف الأثير على مائدة أبيها، وهي المرة الأولى لدخول الشركسية في بيت السيد، فحازت لدى تناولها إعجاباً شاملاً بلغ أقصاه عند ياسين، حتى إن الأم نفسها لم تبرأ من لسعة غيرة، أما خديجة فجن جنونها، وجعلت تهزأ بالصنف قائلة: قالوا شركسية، ولكن ماذا رأينا، رزاً وصلصة بهيئة بوليتيكا، طعمها لا هنا ولا هناك”.

أراد الكاتب في “ثورة المائدة”، أن يصحب قارئه في رحلات شائقة تتجول عبر الزمان لتقدم حكايات متنوعة بين الأمس واليوم عن مطابخ العصر الذهبي للإسلام، وحكايات كنوز المطبخ الشرقي، لكن من دون تقديم وصفات، أو ترجيح طريقة شيف على آخر، بل قدم لائحة طعام تجسد الذوق الشخصي للكاتب، لأنه يرى أن “مائدة الطعام ليست هامشاً، بل إنها متن عميق وأصيل للحب والأمان”.

تحديات مطبخية ولغوية

في تجربة أخرى تتعلق بالكتابة عن الطعام، يرى شارل عقل في كتابه “غذاء للقبطي”، أن وصف الطعام بالنسبة له يعد تحدياً لغوياً، نتيجة لقلة المفردات المتعلقة بوصف مذاق ما. هذا التحدي، الذي لا يبتعد من الحقيقة، يمثل في حيزه التاريخي والجغرافي رحلة الكاتب في رصد المطبخ القبطي، وتغطية معظم مضمونه، سواء في الأوقات العادية، أم في المناسبات، كما في الصيام والأعياد.

يتوقف شارل عقل عند طبق مصري مهم هو “الفول”، يرى أهمية الفول في المطبخ القبطي، أنه يشغل موقعاً حساساً بالمفهوم التاريخي الواسع للكلمة، “أي أنه قبطي بمعنى مصري، قديم قدم المطبخ الفرعوني، وما تلاه من ثقافات وديانات توافدت على هذه المنطقة الجغرافية التي تسمى مصر”، ويتمركز الفول بالمطبخ القبطي باعتباره الوجبة الأساسية في الصيام، الذي يدوم بالتقريب 200 يوم في العام. ولعل طبق الفول هو ما ساعد الكاتب في اكتشاف مهاراته في الطهو، ورغبته في النزوع إلى التجريب واختبار توافق التوابل مع بعضها، حد أنه فكر في كتابة 100 وصفة لإعداد طبق الفول.

يذكر الكاتب في فصل “مخبوزات المحبة” تفاصيل عن المخبوزات القبطية مثل “فطير الملاك”، وهو عبارة عن عجين وزيت وسكر وخميرة وماء دافئ، هناك أيضاً “الفايش الجاف”، وكلاهما يجري تناوله مع الشاي. أما فصل “الأقباط والسي فود”، فيتشعب في تفاصيل أنثربيولوجية مهمة تشمل الدين والجغرافيا والتاريخ، عبر دلالات الأسماك في الثقافة المسيحية عموماً، إذ تأتي الأسماك محملة بالدلالات بعد الخبز والنبيذ، لأن خطاب يسوع في الأناجيل الأربعة يحفل بالتشبيهات البحرية، وهذا يعود ربما لأن تلاميذ يسوع من الصيادين في الأساس، كما أن منطقة الجليل، حيث كان يسوع، هي منطقة بحرية ذات ثروة سمكية، اعتمد أهلها بصورة رئيسة على تناول الأسماك، يقول: “الأسماك في السياق القبطي المصري، ليست أكلة يومية متواضعة على حسب عادات الجليليين، بل أكلة مرفهة ملونة احتفالية، وهو ما لا أعيبه على الإطلاق، لكنه فقط دليل آخر على غياب المنطق والدوافع الدينية مع غياب سياقها”.

يتضمن الكتاب 10 فصول يحكي الكاتب فيها عن عام كامل في المطبخ القبطي، وما ورد على مائدته في أيام الأفراح والأتراح. يتضمن السرد إشارات تاريخية واجتماعية، يستحضر طرائف ومشاهد وصفية حيوية وشيقة عن فعل الطهو، وعن المحرمات وموقف يسوع منها، حين سأله الجموع عن عدم اتباع تلاميذه لقواعد المائدة اليهودية، بأن قال حسب رواية متى: “ليس ما يدخل الفم ينجس الإنسان، بل ما يخرج منه”.

هناك جدلية أخرى يطرحها الكاتب قائلاً: “إذا حاولنا تناسي الموروثات الدينية، وكذلك المسلمات من العادات الاجتماعية، على أي أساس نعتبر بعض الحيوانات صالحة للأكل وأخرى غير صالحة؟ هذا سؤال مهم يتعين على كل من يأكل اللحوم أن يسأله لنفسه، ما دام قد ارتضى أن يقتل حيواناً ليأكله”.

يمزج شارل عقل في سرده بين التجارب الذاتية والموضوعية، كما لديه حس من الدعابة والسخرية في رؤية التفاصيل الواقعية، والتحايل عليها، كأن يقول: “أهم سياسات المطبخ القبطي في الطهو، هي سياسة عدم الانحياز، مطبخ التحايل على القوانين، مطبخ المجبرين على الصيام لأسباب اجتماعية أو قناعات جامدة يخافون من تغييرها، خذ مثالاً على تلك السياسة البيتزا الصيامي، إن مجرد اقتران اسم البيتزا مع كلمة صيامي نجد في تركيبته شيئاً من الطرافة”.

الكتاب، في جوهره، يمكن اعتباره رحلة ثقافية تمسك بخيوط التاريخ والدين والهوية. يقدم الكاتب الطعام كوسيلة لفهم أعمق للتراث القبطي، كما يحمل دعوة إلى إعادة النظر في علاقتنا بالطعام، ليس كمجرد وقود للجسد، بل كجسر يربط الماضي بالحاضر، والقداسة باليومي، والفرد بالجماعة.

Exit mobile version