بعد غياب طويل عن موائد السوريين بسبب ارتفاع جنوني في سعرها، عادت فاكهة الموز إلى الأسواق لتصبح في المتناول بعد انخفاض ثمنها، فيما عده البعض أحد نتائج سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد.
فقد كانت هذه الفاكهة المفضلة لدى السوريين بمثابة حلم صعب المنال قبل 8 ديسمبر/ كانون الأول الماضي (تاريخ هروب الأسد)، بعد أن وصل سعر الكيلوغرام منها إلى نحو 50 ألف ليرة سورية (حوالي 5 دولارات)، أي ما يعادل سدس راتب الموظف العادي.
وبسبب ارتفاع أسعاره، تحوّل الموز إلى مادة للسخرية بين السوريين، حيث كانوا يتبادلون التهاني عند الحصول عليه، ويهدونه لبعضهم، ويلتقطون صورا معه، ويشاركون هذه اللحظات على منصات التواصل الاجتماعي في تعبير ساخر عن معاناتهم مع الأوضاع الاقتصادية تحت حكم الأسد.
لكن بعد سقوط النظام، هبط سعر الموز إلى الخُمس، ليصبح سعر الكيلوغرام منه حوالي 10 آلاف ليرة (نحو دولار واحد)، ما دفع السوريين للإقبال على الأسواق لشراء هذه الفاكهة التي انتظروها طويلا.
وفي سوق مدينة درعا جنوبي سوريا، لوحظت وفرة الموز على بسطات الباعة، وإقبال كبير من الزبائن، خصوصا أرباب العائلات الذين عجزوا سابقا عن شراء ولو موزة واحدة لأطفالهم.
وفي 8 ديسمبر المنصرم، بسطت فصائل سورية سيطرتها على العاصمة دمشق بعد أيام من السيطرة على مدن أخرى، لينتهي بذلك 61 عاما من حكم حزب البعث الدموي، و53 سنة من نظام عائلة الأسد.
الموز كان هدية
بصوته الجهوري ينادي أبو خالد النعيمي، أحد تجار السوق، على الزبائن لشراء الموز قائلاً بلهجة حوران: “موز يا أبو العيال، تعال يا محروم تعال!”.
ويضيف وسط حشد الزبائن: “بهدلوك يا موز، أبو الخمسين ألف صار بعشرة آلاف، قرّب يا سوري قرّب!”، في إشارة إلى الانخفاض الكبير في سعر هذه الفاكهة التي أصبحت الآن في المتناول.
ويقول أبو خالد ببساطة أهل حوران: “الموز الآن متوفر بعدما انخفض سعره بشكل كبير، وكما ترون، ها هو موجود على البسطات بعد غيابه سنوات”.
ويتابع: “الزبائن يشترون أحيانا 2 أو 3 كيلوغرامات من الموز، وتبدو السعادة واضحة على وجوههم. الأمر أشبه بحالة احتفال، حتى أن البعض اعتبر ذلك أحد إنجازات الثورة”.
وعن الوضع قبل سقوط النظام، يبتسم أبو خالد ويقول: “لو جئتم إلى هذا السوق قبل 8 ديسمبر 2024 لتبحثوا عن الموز، لما وجدتم قطعة واحدة، وكان مجرد الحديث عنه يبدو مثيرا للسخرية بسبب أسعاره الخيالية”.
ويردف: “كان الأثرياء فقط يشترون الموز لأطفالهم بالقطعة الواحدة، وغالبا يخفونه في حقائبهم حتى لا يراهم الفقراء، الذين كانوا يتحسرون على عجزهم عن شرائه”.
ويختصر أبو خالد ذلك الواقع بقوله: “كان الأب يعد ابنه بشراء موزة واحدة فقط إذا حصل على علامات جيدة في المدرسة”.
ويكمل ضاحكا: “عندما تزوج أحد أصدقائي، سألته مازحا: ما الهدية التي ترغب فيها؟ فأجاب: كيلوغرامين من الموز!”.
أهديت زوجتي موزة
على بعد أمتار من بسطة أبي خالد، يقف شادي الجبر (40 عاما) أحد سكان المدينة، بجوار طفله آدم (5 سنوات)، حاملين عدة قطع من الموز، بينما ترتسم الابتسامة على وجهيهما بعد أن تمكنا أخيرا من شراء هذه الفاكهة الموعودة.
يقول الجبر، وهو يتنفس الصعداء: “الحمد لله على انتصار الثورة، أصبح بإمكاننا الآن تذوق الموز بعد انتظار طويل”.
ويضيف: “لم أتمكن من شراء الموز منذ 6 سنوات. كنت أعمل في ميكانيكا السيارات، لكن عملي توقف بسبب الحرب التي شنها علينا نظام الأسد، وحرمت أطفالي من هذه الفاكهة البسيطة”.
ويشير الجبر إلى انخفاض الأسعار قائلا: “سعر الكيلوغرام من الموز الآن 10 آلاف ليرة بعد أن كان يتجاوز 50 ألفا، ولهذا قررت أن ألبّي رغبة أطفالي بتناول هذه الفاكهة التي كانوا محرومين منها في ظل نظام الأسد المجرم”.
ويتابع بابتسامة حزينة: “في إحدى السنوات، أردت تقديم هدية لزوجتي بمناسبة ذكرى زواجنا، فلم أجد شيئا سوى موزة واحدة، كانت تُباع وقتها بـ10 آلاف ليرة. وضعتُها في علبة هدايا وزيّنتها بالأحمر والأصفر والأخضر والأبيض محتفلا”.
وعن ردة فعل زوجته، يقول: “لك أن تشاهد فرحتها بهذه الهدية عندما فتحتها وأزالت عنها طبقات الورق التي وضعتُها على قطعة الموز، تمهيدا للوصول إلى هذا الكنز الثمين”.
وإلى جوار الجبر، يقف نجله آدم ممسكا بقطعة موز، وطلب التقاط صورة له مع الفاكهة، وقال بلغة الطفولة البريئة: “أصبح بإمكاني أن آكل قطعة موز كاملة، للمرة الأولى”.
وناظرا إلى والده بعين الولاء، يضيف الطفل الذي أنهكه نظام الأسد: “أتمنى أن آكل الموز كل يوم لأنه فاكهة لذيذة، وأنا أحبها، وأريد أن آكلها أنا وإخوتي الذين ينتظروننا في المنزل بفارغ الصبر”.
أما البائع شادي غشام، فيمسك بيده عدة قطع ويصيح بأعلى صوته: “دهب أصفر يا موز”، ويقول للأناضول إن هذه الفاكهة اجتاحت السوق بوفرة للمرة الأولى منذ عدة سنوات.
ويؤكد غشام أن الموز أصبح حديث الساعة بعد انخفاض سعره وغدا “بسعر البطاطا”، وهي عبارة يستخدمها أهالي المحافظة للإشارة إلى أي بضاعة رخيصة الثمن.
وخلال سنوات الحرب التي شنها نظام الأسد، عانى السوريون من ارتفاع أسعار السلع الأساسية وندرة المواد مثل الخبز والوقود، ما أدى إلى فقر مدقع وأوضاع إنسانية مأساوية.
لكن بعد سقوط النظام، شهد السوريون تحسنا في توافر السلع وانخفاض أسعارها، ويأملون أن تكون هذه بداية لتحسن أكبر في الواقع الاقتصادي لبلادهم التي أنهكتها سنوات من المعاناة.