أبرزت دراسة صادرة عن مركز البحوث والدراسات بمؤسسة الفكر العربي، الدور المحوري الذي لعبته غزة في الحفاظ على الديانة المسيحية، في مواجهة الاحتلال الروماني.
أوضحت الدراسة التي أعدتها الباحثة د. تهاني سنديان، أن غزة التي تشهد أشرس حرب إبادة في التاريخ الإنساني، تمتلك سجلا طويلا في تاريخ الحضارة والمدنية والمهام الدينية، وكان لها دور «إنساني حضاري مقدس»، بالحفاظ على الديانة المسيحية في مواجهة الاحتلال الروماني، ورغم ذلك لم يلتفت أحد إلى المسيحيين الفلسطينين في غزة، وغاب عنهم تماما عيد الميلاد المجيد، وهم يتلقون كل ساعة، بل وكل لحظة، آلام وأحزان القصف الإسرائيلي العشوائي الدموي، الذي استهدف البشر والحجر، الكنيسة والمسجد.
أضافت الدراسة: ربما لا يعلم كثيرون أن غزة كان لها دور محوري في الحفاظ على الديانة المسيحية، التي دخلت القطاع عام 250 ميلاديّة (أي قبل 1800 عام تقريبا).. وكانت غزة في مقدمة المؤمنين بالمسيحية لعدة أسباب، وهي:
أولا: لأن غزة تشكّل امتدادًا طبيعيًا لأرض المسيح المقدّسة والتاريخيّة (فلسطين)، وتبعد عن بيت لحم مسقط رأس السيد المسيح ـ عليه السلام ـ بنحو 74 كم.. وتبعد عن مدينة القدس بنحو 77 كم.. وتبعد عن مدينة الناصرة، وطن المسيح طوال الثلاثين عامًا الأولى من حياته، بنحو 155 كم.
وثانيًا: لأن غزة تحتل موقعًا استراتيجيًا على البحر المتوسّط، بانفتاحه على العالَم القديم وتحولاته، اقتصاديًا وثقافيًا.
ثالثا: كان القديس هيلاريون (مواليد قرية تاباثا القريبة من غزة سنة 291 م)، أول راهب غزّاوي فلسطيني، وقد أسَّس خلوته أو دَيره في منزل صديقه الخضر عام 278م.. والسبب أنّه كان مُقيما بشكل سري في الغرفة العلويّة من ذلك المنزل.
وتحوَّل المنزل بعد ذلك إلى أوّل دَير للمسيحيين في غزة. وتأسست في رحابه لاحقًا أول جمعية للرهبان المسيحيين في المشرق العربي، بعد توقُّف الاضْطهاد الروماني للمسيحيّة الذي دام نحو ثلاثة قرون حتّى مجيء قسطنطين الأوّل (272 – 337 م)، الذي قرر الاعتراف بالمسيحية دينا أساسيا من أديان الإمبراطورية الرومانية.
رابعا: في مدينة دَير البَلح في وسط غزّة، كان قد تأسّس مقام الخضر الأثريّ؛ والخضر شخصيّة مقدّسة لدى كثير من أتباع الدّيانات الكبرى الثلاث، وكان المسيحيون يقولون إنّ «مار جرجس» هو نفسه الخضر، وقد قُتل في شهر نيسان/أبريل عام 303م، بعد اعتناقه المسيحيّة في عهد الملك الروماني دقلديانوس، ولم يكُن في فلسطين حينها أيّ راهب عَلَني، نظرًا لحظر نشاط الديانة المسيحيّة من طَرف الاحتلال الروماني للبلاد.
خامسا: بعد انقسام الإمبراطوريّة الرومانيّة عام 395م إلى دولتَيْن: واحدة في الشرق وأخرى في الغرب، بقيت غزّة تحت سيطرة الإمبراطوريّة الرومانيّة الشرقيّة، والتي تحوّلت لاحقًا إلى ما يُسمّى «الإمبراطوريّة البيزنطيّة»، وجاء القدّيس بورفيريوس من اليونان إلى غزّة، بين عامَيْ 396 و420 ميلاديّة، فرحّب به جَمْعٌ كبير من الغزّاويّين، وساعدوه في مهمّاته الدّينيّة الجليلة لجعْل مَن تبقّى بينهم من وثنيّين يهتدون للربّ على يدَيْه.
وتم هَدْم ثمانية هياكل للوثنيّين في غزّة، أهمّها هيكل «زفس»، الذي كان من أشهر هياكل المعمورة وقتها، وفي مدّة عشرة أيّام فقط، شرعَ الغزّاويّون في بناء كنيسة كبرى بملحقاتها مكانه، وجاء البناء على شكلِ صليبٍ كبير، أَشرف على رسْمِه وبنائه مهندسٌ من أنطاكية يُدعى روفينوس.
اسم غزة في كتاب العهد الجديد
وتشير الباحثة د. تهاني سنديان، في دراسة مؤسسة الفكر العربي، إلى تقرير حديث نَشره الموقع البريطاني «ميدل إيست آي»، نقلاً عن مُختصّين في التاريخ المسيحي لمنطقة قطاع غزّة، بأنّ اسم غزّة نفسه ذكر في كتاب «العهد الجديد» في أعمال الرسل 8، من خلال أنّ القدّيس فيلبس الرسول، عمَّد رجلاً من الحبشة على الطريق الواقعة بين القدس وغزّة.. وتقول الآية الواردة في الكتاب: «ثمّ إنّ ملاك الربْ كلّم فيلبس قائلاً: قُمْ واذهب نحو الجنوب، على الطريق المنحدرة من أورشليم إلى غزّة التي هي بريّة».
ومسيحيّو غزّة الذين لا يتجاوز تعدادهم الألف نسمة اليوم من أصل 3500 قبل فرْض الحصار الإسرائيلي على القطاع عام 2007، يتوزّعون على 3 كنائس مركزيّة هي أوّلاً، كنيسة الروم الأرثوذكس اليونانيّة أو كنيسة القدّيس بورفيريوس التاريخيّة. وثانيًا، كنيسة العائلة المقدّسة للّاتين أو بمسمّى آخر: الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة. وثالثًا، الكنيسة المعمدانيّة، وهي الوحيدة الخاصّة بالطائقة البروتستانتيّة. ولم تَسلم جميع هذه الكنائس من الاعتداءات الإسرائيليّة المقصودة والمُبرمَجة منذ بداية انفجار الحرب الأخيرة على القطاع، والمستمرّة هكذا بلا هوادة.
ونقلت «د. سنديان»، عن الأبّ مانويل مسلَّم، راعي كنيسة اللّاتين في غزّة لسنواتٍ طويلة، وعضو «الهيئة الإسلاميّة – المسيحيّة لنصرة المقدّسات»، ورئيس الهيئة الفلسطينيّة المستقلّة لمُلاحقة مُجرمي الحرب الإسرائيليّين، رسالته لمسيحيّي غزّة: «اذكروا أنّكم جزء لا يتجزّأ من شعبكم العظيم، أنتم جزء أصيل من المُقاوَمة والثبات أمام عواصف الظلم والطغيان.. إرادة الله هي قوّتكم، صلّوا لشعبكم ليرفع الله عنهم وعنكم غضبه، ويردّ برأفته كَيد أعدائكم».
الغد