زار وزير الخارجية الإيراني عبّاس عراقجي دمشق الأسبوع الماضي، حيث التقى مع رئيس النظام السوري بشّار الأسد، وذلك لبحث التصعيد الإسرائيلي والتطورات الإقليمية الأخيرة. ونُقِل عن الأسد قوله في الاجتماع أنّ “الردّ الإيراني كان ردا قويا، وأعطى درسا للكيان الإسرائيلي بأن محور المقاومة قادر على ردع العدو، وأنه سيبقى قويا ثابتا بفضل إرادة وتكاتف شعوبه”. ويعتبر هذا التصريح الأوّل من نوعه منذ حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في غزة.
وباستثناء هذا التصريح الذي بدا اضطراريا وفارغا في نفس الوقت، ليس هناك أي تصريحات أو إجراءات عملية لنظام الأسد لمساندة ما يسمّى “محور الممانعة” منذ اندلاع طوفان الأقصى وحتى اليوم. فسّر البعض غياب الأسد -الذي لطالما اعتُبِرَ جزءا أساسيا من محور “الممانعة”- عن المشهد بموقف حركة حماس من نظامه إبّان ثورة عام 2011 ورفض حماس أن تكون ورقة بيد النظام للتغطية على جرائمه. لكن سرعان ما فقد هذا الطرح قدرته على التفسير فور توسّع دائرة التصعيد لتشمل اجتياح إسرائيل للبنان وتدمير بنية حزب الله، ومنظومة القيادة والسيطرة والتحكم لديه، وجزءا كبيرا من مخازنه العسكرية ومقراته وقياداته داخل لبنان، بالإضافة إلى التصعيد الإسرائيلي-الإيراني.
لا يبدو الأسد حاضرا في الصورة. وقد توقّف نصر الله قبل اغتياله كذلك عن الإشارة إلى سوريا الأسد بوصفها جزءا أساسيا من محور “الممانعة”، وكذلك توقّف المسؤولون الإيرانيون عن التواصل الفعّال مع الأسد كما كان يجري على الأمر سابقا. ومن الواضح أنّ نظام الأسد لا يريد أن يكون كذلك جزءا مما يجري أو أن يدفع أي أثمان لها علاقة بأي ترويج لمشاريع إيران
فبعد 13 سنة من دور حزب الله وإيران التدميري في سوريا تحت عنوان نصرة مشروع “الممانعة”، لا يبدو الأسد حاضرا في الصورة. وقد توقّف نصر الله قبل اغتياله كذلك عن الإشارة إلى سوريا الأسد بوصفها جزءا أساسيا من محور “الممانعة”، وكذلك توقّف المسؤولون الإيرانيون عن التواصل الفعّال مع الأسد كما كان يجري على الأمر سابقا. ومن الواضح أنّ نظام الأسد لا يريد أن يكون كذلك جزءا مما يجري أو أن يدفع أي أثمان لها علاقة بأي ترويج لمشاريع إيران “المقاومة”، حتى ولو كانت صوريّة أو شكلية كما تجري العادة.
البعض يشير إلى أنّ الأسد يعي أنّ تدخّل حزب الله وإيران لإنقاذه في الـ13 سنة الماضية لم يكن مسألة شخصيّة، وإنما كان بمثابة إنقاذ لمصالح حزب الله وإيران بالدرجة الأولى، وبالتالي فهذه مساعدة ذاتية لنفسيهما وليست جميلا على الأسد أن يردّه لهما. وفي المقابل، هناك من يرى أنّ اتخاذ الأسد موقفا حياديا ممّا يجري هو نتيجة لتفاهمات غير مباشرة مع إسرائيل تحقّق له مكاسب هو في أمسّ الحاجة إليها وليس باستطاعة الحزب أو إيران تقديمها له. وأخيرا، هناك رأي ثالث يقول إنّه ليس باستطاعة الأسد أن يفعل أي شيء في جميع الأحوال حتى لو أراد المشاركة فعليا، وأنّ إسرائيل قادرة على اغتياله وتدمير نظامه إن أرادت، وهو أمر يعيه النظام جيدا وتعيه إيران كذلك. ولهذا السبب بالتحديد، قد يكون هناك تفهّم من جميع اللاعبين إزاء وضع الأسد ودوره الوظيفي في خدمة جميع الأطراف، بما في ذلك تلك التي تبدو متناقضة للوهلة الأولى.
كيف حصل ذلك؟ وكيف انتقل الترويج للأسد من “قلب الممانعة النابض” إلى غيابه الكامل عن محور “الممانعة”؟ في الفترة بين 2006 و2009، أشارت عدّة استطلاعات في العالم العربي إلى أنّ بشّار الأسد، وحسن نصر الله، والرئيس الإيراني أحمدي نجاد؛ هم الشخصيات الأكثر شهرة وتأييدا في العالم العربي نظرا لما كان يُعرف حينها باسم محور “الممانعة”.
في نهاية العام 2010 وبداية العام 2011، اندلعت موجة من الاحتجاجات الشعبية في عدد من الدول العربية من بينها تونس ومصر واليمن أطاحت بالأنظمة القائمة هناك. ومع الخوف القائم لدى الأنظمة الأخرى من انتقال هذه الثورات إليها على طريقة أحجار الدومينو، سئل بشّار الأسد حينها عن إمكانية أن تشهد سوريا احتجاجات مشابهة، فأجاب قائلا إنّ وضع سوريا كدولة مقاومة للسياسات الأمريكية وقرب النظام من اتجاهات الناس يجعل إمكانية قيام مثل هذه الاحتجاجات غير ممكن بالرغم من ظروف الناس الصعبة.
بمعنى آخر، كان نظام الأسد يرى أنّ سمعته كـ”مقاوم” لسياسات أمريكا وإسرائيل تمنحه الحصانة في تأمين نفسه، وتسحب من الناس إمكانية الاحتجاج أو المطالبة بحقوقهم، وتبقيه على كرسي الحكم إلى الأبد. نفس المنطق كان قائما عند باقي أطراف المحور الذي كان يوصف خلال السنوات التي سبقت بـ”محور الممانعة”، ويضم إلى جانب الأسد كلا من حزب الله في لبنان وإيران.
بعدها بأقل من شهرين فقط على تصريح بشّار الأسد، اندلعت الاحتجاجات ضد نظامه في سوريا، وتصاعدت بعد قيام عناصر النظام باعتقال وتعذيب وقتل الأطفال والمتظاهرين السلميين. وارتفع سقف مطالب المتظاهرين سريعا إلى أن انتهت بالمطالبة بتغيير نظام الأسد. ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع الاحتجاجات، اتخذت إيران قرار التدخل ضد الشعب السوري، وكلّفت طهران حزب الله وباقي أطراف المحور برمي كل ثقلهم خلف نظام الأسد. وكما قال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، سابقا، “فقد تمّ تكليفنا بالانتصار وليس التدخل فقط”. لكن عندما فشلوا في تحقيق ذلك بقيادة إيرانية، استعانوا بروسيا وأقنعوها بضرورة التدخل وإنقاذهم مع نظام الأسد.
سيقت الكثير من المبررات وصنعت الكثير من السرديات لتبرير تدخّل محور إيران والذي أدىّ إلى قتل مئات الآلاف من السوريين وتشريد أكثر من 10 ملايين سوري بين لاجئ ونازح في الداخل والخارج. وقد تمّ تقديم هذه المسوّغات لقاعدة حزب الله، وجمهوره، والرأي العام العربي والإسلامي بالتدريج. فقد بدأت بالادعاء أنّ هدف التدخّل هو حماية المراقد والقبور الشيعية تحت شعار “لن تسبى زينب مرّتين”، ثم انتقلت إلى “حماية الشيعة في سوريا”، وبعدها إلى مقاتلة الإرهابيين (أي المتظاهرين) الذين “يريدون الإطاحة بنظام مقاوم ويخدمون الأجندة الصهيونية”، ثم مقاتلة التكفيريين الذين “إذا لم نقتلهم تدفقوا إلى لبنان لقتالنا وقتل أهلنا وسبي نسائنا”، وأخيرا إذا لم نقتلهم فسيسقط مشروع المقاومة وسنصبح عبيدا لإسرائيل.
المفارقة أنّه في الوقت الذي كانت تتمّ فيه صناعة وترويج هذه السرديات، كان هدوء الجبهة اللبنانية قد سمح للحزب بأن يرمي بثقله في الداخل السوري دون أن يخشى شن حرب إسرائيلية ضده. وقد كتب الرئيس السابق للموساد حينها كذلك عن ضرورة حماية “رجلهم في دمشق” أي الأسد.
تخفيف التبعية لإيران -وليس التخلي عنها، لأنّ هذا نقاش مختلف تماما- من شأنه أن يحقق عددا من الأهداف المهمّة للأسد، وأن يقنع أصحاب مشروع إعادة التأهيل بأنّ الأسد يستحق فرصة أخرى. وبالتالي، يحصل الأسد في المقابل على الدعم السياسي والاقتصادي وربما الأمني اللازم لإعادة بسط سيطرته على كامل سوريا
وكان عدد من رجالات نظام الأسد قد أرسلوا إلى إسرائيل قبل ذلك رسالة مفادها أنّ “أمن سوريا من أمن إسرائيل”، في إشارة إلى ضرورة ألّا تعمل إسرائيل على الإطاحة بالنظام.
في نهاية المطاف، تمّ إنقاذ الأسد -ولو بشكل مؤقت- من شعبه الذي كان ينشد الحرية والعدالة والعيش الكريم، لكن ذلك جاء على حساب تدمير سوريا وقتل شعبها وجعلها مستعمرة لإيران ومليشياتها، وللمشروع الروسي. وخلال السنوات الـ13 الماضية، تحوّل الأسد إلى مجرّد تابع، في وقت تدخّلت فيه العديد من الدول العربية، لا سيما الخليجية، لإعادة تأهيله. ليس من المستبعد أن تكون إسرائيل بعيدة عن هذا المشروع أيضا، فعملية إعادة التأهيل تتطلب الانفتاح على المحيط العربي وتخفيف حدّة التبعية لروسيا وإيران، ومن غير الممكن أن يتم ذلك لو كان هناك اعتراض إسرائيلي. لكن، من وجهة النظر الإسرائيلية فإنّ على الأسد أن يبرهن أيضا أنّه يريد أن يسلك هذا المسار.
وعليه، فانّ تخفيف التبعية لإيران -وليس التخلي عنها، لأنّ هذا نقاش مختلف تماما- من شأنه أن يحقق عددا من الأهداف المهمّة للأسد، وأن يقنع أصحاب مشروع إعادة التأهيل بأنّ الأسد يستحق فرصة أخرى. وبالتالي، يحصل الأسد في المقابل على الدعم السياسي والاقتصادي وربما الأمني اللازم لإعادة بسط سيطرته على كامل سوريا، وهو أمر لا تستطيع إيران أو روسيا في نهاية المطاف تقديمه له.
خلال العام الماضي، قامت إسرائيل باغتيال سلسلة من كبار قادة الحرس الثوري الإيراني في سوريا، كان من أبرزهم العميد محمد رضا زاهدي، قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني في كل من سوريا ولبنان، وذلك أثناء تواجده في مجمّع السفارة الرسمي التابع لإيران في دمشق في نيسان/ أبريل الماضي. ونشرت حينها العديد من التقارير الإيرانية التي تشكك في إمكانية أن يكون للأسد و/أو روسيا دور في تسريب المعلومات المتعلقة بتحرّكات كبار القادة والمسؤولين الإيرانيين داخل سوريا. وبالرغم من أنّه لا يمكن نفي ذلك تماما، لكنّ جزءا من هذا الافتراض يقوم على أمرين: الأوّل هو تجاهل قدرة إسرائيل على جمع المعلومات والاختراق دون الحاجة إلى نظام الأسد بالضرورة، والثاني هو عنجهيّة وتكبّر إيران وأدواتها اللبنانية، وكذلك محاولة نفي أن يكون التقصير أو الاختراق إيرانيّا أو تابعا لحزب الله.
لو اعتبرت إيران المواجهة مع إسرائيل حتميّة، كما اعتبرت مواجهتها مع الشعب السوري ومع الشعب العراقي ومع الشعب اليمني واللبناني حتميّة، لكانت اليوم في حرب حقيقية مع إسرائيل، لكن إصرار المسؤولين الإيرانيين بمختلف مراكزهم ودرجاتهم على التأكيد بأنّهم لا يسعون إلى حرب مع إسرائيل، ولا يريدون التصعيد أو التوتّر معها، من شأنه أن يشجّع إسرائيل على تماديها
وقد أثبتت العمليات الإسرائيلية التي تمّ تنفيذها داخل إيران وداخل لبنان خلال الفترة القليلة الماضية وجود اختراق بشري هائل للمنظومة الأمنيّة التابعة للطرفين على أعلى المستويات، خاصّة عندما نقارن مع حالة حماس على سبيل المثال. ووفقا لتقرير أعدّته الواشنطن بوست وآخر للفايننشال تايمز، فإنّ جهاز الموساد الإسرائيلي استطاع اختراق حزب الله بشكل جماعي في مختلف المستويات منذ العام 2013 على أقل تقدير. هذا يعني أنّ الموساد ظل يرصد كل اتصالات وتحرّكات الحزب وعناصره وقياداته لتسع سنوات على الأقل، ومع هذا فإنه لم يتدخّل ضد حزب الله طوال فترة انغماس الحزب في سوريا، كما أن الجبهة على الحدود مع لبنان ظلّت منذ العام 2006 هادئة تماما، وأهدأ من تلك القائمة مع مصر والأردن.
التفسير الوحيد لهذا الأمر هو أنّ تدخل حزب الله في سوريا وقتل شعبها وتدميرها كان مفيدا لتل أبيب ومصالحها الإقليمية، ولذلك فقد تركت إسرائيل حزب الله -ومن ورائه إيران- يكمل المهمّة في سوريا حتى النهاية.
أمّا اليوم، فيعي نظام الأسد أنّ وجوده هو مصلحة إسرائيلية كذلك، ويحتاج أن يستغل هذا الأمر في إعادة ترميم نفسه وإن تطلّب ذلك ترك مسافة بينه وبين حزب الله وإيران حتى حين. يبقى أن نشير إلى مفارقة مفادها أنّه فيما لو اعتبرت إيران المواجهة مع إسرائيل حتميّة، كما اعتبرت مواجهتها مع الشعب السوري ومع الشعب العراقي ومع الشعب اليمني واللبناني حتميّة، لكانت اليوم في حرب حقيقية مع إسرائيل، لكن إصرار المسؤولين الإيرانيين بمختلف مراكزهم ودرجاتهم على التأكيد أنّهم لا يسعون إلى حرب مع إسرائيل، ولا يريدون التصعيد أو التوتّر معها، من شأنه أن يشجّع إسرائيل على تماديها، بما في ذلك على إيران ومليشياتها.