‏أفول الردع الإسرائيلي وتراجع الهيمنة الأمريكية

حسن أبو هنية

‏‏تستند المستعمرة الصهيونية للحفاظ على وجودها غير الشرعي في الشرق الأوسط على بناء قوة ردع تؤمّن تفوقها وديمومة حياتها الشاذة في لمنطقة، وتلتزم الولايات المتحدة الأمريكية برعاية كيان الفصل العنصري وضمان أمنه، والحفاظ على تفوقه من خلال تقديم كافة احتياجاته العسكرية والأمنية ودعم متطلباته الاقتصادية وتغطيته في المجالات السياسية. وفي زمن انهيار النظام العربي بلغت الغطرسة الإسرائيلية غايتها القصوى في ظل عمى القوة الأمريكية، حيث طمست غطرسة القوة بصر وبصيرة أمريكا وإسرائيل فشرعتا بعملية إعادة تشكيل الشرق الأوسط كما لو كانت المنطقة فراغا خاليا من البشر الفاعلين ومجردين من مقومات الدفاع وآليات المقاومة، ولكن سرعان ما أيقظ “طوفان الأقصى” أوهام القوة الأمريكية والغطرسة الصهيونية من سباتها العميق، وعصف بالأوهام والضلالات والأحلام المنفصلة عن الواقع.

قبل أيام معدودات من عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر كان رئيس وزراء الكيان الاستعماري بنيامين نتنياهو يتبجح من على منبر الأمم المتحدة بإعادة بناء الشرق الأوسط ومحو اسم فلسطين، ضاربا عرض الحائط بالعدالة السياسية والقوانين الدولية والمبادئ الأخلاقية. ولم تكن الأحلام الصهيونية منفصلة عن الأوهام الأمريكية، فقد لخصت مقالة مستشار الأمن القومي الأمريكيّ جيك سوليفان في مجلة “فورين أفيرز” الأمريكية في ذات التوقيت درجة الانفصال الأمريكي عن الواقع في المنطقة، فقد ردد المقال ببلاهة متناهية طموحات استراتيجية الدفاع الوطني في عهد الرئيس جو بايدن باعتبارها وقائع وحقائق راسخة، وركز المقال على نجاح الولايات المتحدة في توفير بيئة استقرار استراتيجي في الشرق الأوسط، وإخماد بؤر التوتر ومن أهمها ما وصفه بـ”بؤرة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني”، عقب توسيع نطاق سياسات التطبيع. وبهذا تندمج إسرائيل في المنطقة وتقود الشرق الأوسط، وهو ما يؤمّن ديمومة الهيمنة الأمريكية على الشرق الأوسط بعد تركه بيد وكيلتها الاستراتيجية الأمينة المستعمرة الصهيونية، وهو ما يفسح المجال للإدارة الأمريكية للتفرغ لمواجهة التحديات الاستراتيجية المتعاظمة بالتحول نحو الصين وروسيا.

لكن حالة السكْر والطمأنينة لم تدم طويلا، فقد جاءت “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وأطاحت بنظريات نتنياهو وسوليفان، وعصفت بكافة الأوهام والأحلام الأمريكية والصهيونية، وتبدلت الثقة بالشك والطمأنينة بالقلق.

عصفت عملية “طوفان الأقصى” وما تبعها من وحدة ساحات المقاومة وجبهات الإسناد باستراتيجية الأمن القومي الإسرائيلي التي تستند إلى مفهوم “الجدار الحديدي” الذي صكه الزعيم الصهيوني زئيف جابوتينسكي، والذي يقوم على بناء قوة رادعة، فتحقيق السلام الإسرائيلي يمكن فرضه من خلال القوة فقط، بعد أن يدرك أعداء إسرائيل أنّ مساعيهم غير فعالة وتؤدي إلى زيادة معاناتهم الخاصة، ويجب أن يكونوا مقتنعين بأن بإمكانهم تحقيق الكثير من خلال الحوار وليس العنف، والاستسلام لمبدأ قوة الردع.

وفي ظل تقديرات موهومة لم يخطر ببال أحد من الصهاينة أن حركة مقاومة فلسطينية محلية محاصرة لا يتجاوز عدد مقاتليها بضعة عشرات الآلاف وبقدرات عسكرية متواضعة دون دعم دولي، ومحيط عربي عدائي ودون قدرة على امتلاك أسلحة متطورة، سوف تقف ندا لأحد أقوى الجيوش في العالم، والذي يتمتع بدعم غربي واسع وإسناد عسكري غير محدود من الولايات المتحدة؛ القوة العالمية الأولى. فحسابات حماس تتجاوز النظرة العسكرية الآنية القاصرة وترنو إلى تحقيق أهداف سياسية استراتيجية بعيدة، فعملية “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 التي شنتها كتائب عز الدين القسام، الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية “حماس”، داخل المعسكرات والمستوطنات الإسرائيلية في غلاف قطاع غزة المحتل، أطاحت بركائز الأمن القومي الإسرائيلي، وجرّت إسرائيل إلى حرب استنزاف واسعة. فسرعان ما دخل محور لمقاومة على خط المواجهة في اليوم التالي، حيث شرع حزب الله اللبناني بمواجهة محسوبة بهجمات عير صواريخ ومسيّرات منسقة ومتدرجة، وساندت قوات الفجر التابعة للجماعة الإسلامية في لبنان جبهة غزة، وامتدت جبهات المساندة إلى جماعة أنصار الله في اليمن وفصائل المقاومة الإسلامية في العراق، ومع مزيد من الاستفزازات الإسرائيلية تخلت إيران عن مبدأ الصبر الاستراتيجي وشرعت في رد متبادل لتثبيت قواعد جديدة للردع.

عندما حلّ عام 2023، كانت غطرسة القوة الإسرائيلية والأمريكية في أوجها، فإسرائيل تحت قيادة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو لم تمل من تكرار سردية القيم المشتركة الأمريكية الإسرائيلية، وثيمة الحضارة والبربرية الزائفة، وخطاب الفوقية العرقية اليهودية الخرافية، وقصة الأصول الاستراتيجية الخيالية، وشدد على تثقيف ووعظ الجماهير الأمريكية بأن إسرائيل هي “حاملة الطائرات القوية” لأمريكا في الشرق الأوسط، بحيث تحولت إسرائيل إلى محمية أمريكية يعتمد بقاؤها الآن على حماية حاملتي طائرات أمريكيتين ونحو 2000 من مشاة البحرية الذين قد ينتهي بهم الأمر بالقتال والموت للدفاع عنها.

ومن عجيب المفارقات أنه في حين كان المعلقون اليمينيون يتباهون بأن بنيامين نتنياهو جعل من إسرائيل قوة عسكرية وتكنولوجية عالمية، أصبحت إسرائيل الآن تحت وطأة مشهديه مهينة تتمثل بمشاركة الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته في اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلي وإملاء ما يتعين عليها القيام به لإنقاذها من نفسها، وعلى خلاف ادعاءات القوة كشف التدخل الأمريكي عن فقدان إسرائيل لقوتها الرادعة، واعتمادها بالكامل على الولايات المتحدة، وهو ما يجعل المكتسبات في مهب الريح. فقد كان تطبيع علاقات إسرائيل مع دول الخليج العربي، بما في ذلك -ربما- المملكة العربية السعودية، وإقامة تحالف عربي إسرائيلي بقيادة الولايات المتحدة، قائما على تصور مفاده أن إسرائيل قوة عسكرية وتكنولوجية لا تُقهر، وتتمتع بقدرة على ردع إيران وشبكة محور المقاومة، وهو ما أصبح من الماضي بعد عملية “طوفان الأقصى”.

تجد الولايات المتحدة الأمريكية نفسها منخرطة في حربها الدائمة في الشرق الأوسط، ولم تنجح بالخروج من المنطقة وتلزيمها لشريكها الإسرائيلي والتفرغ للتحديات الاستراتيجية القادمة من الصين وروسيا، فقد هرعت واشنطن لمساعدة إسرائيل وتعويض خسارتها قوة الردع التي فقدتها. فمنذ تأسيس إسرائيل اعتمدت على استراتيجية “الردع”، التي تقوم على خلق صورة وحش مخيف وخطير لا يمكن تحديه وإزعاجه، وعلى خطى جابوتنسكي قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، أرئيل شارون، في أحد تصريحاته، إن الردع هو “السلاح الرئيسي للبلاد.. أي الخوف منا”، فيما قال الجنرال الإسرائيلي موشيه ديان، “إن إسرائيل يجب أن ينظر لها على أنها كلب مسعور، خطير جدا بحيث لا يمكن إزعاجه”.

وحسب تقرير نشرته مجلة فورين بوليسي فإن ما وقع في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وضع هذه الاستراتيجية على المحك، إذ أصبحت هناك “ضرورة وجودية غير مسبوقة لإعادة بناء قوة الردع في إسرائيل، والتي تتضاءل بشكل متزايد منذ انسحابها من لبنان في عام 2000″، وهو ما سعى نتنياهو إلى استعادته من خلال شن حرب إبادة وحشية في غزة ثم لبنان ومهاجمة إيران دون جدوى. فبعد مرور أكثر عام على حرب الإبادة الوحشية فشلت الاستعراضات الإسرائيلية غير المسبوقة للقوة العسكرية في غزة ولبنان والهجمات الاستعراضية في اليمن وسوريا ثم إيران؛ في استعادة الردع، فتحقيق نصر عسكري حاسم في غزة ولبنان لا يزال بعيد المنال، وقد أدت معدلات الخسائر المرتفعة للجيش الإسرائيلي في الحرب البرية إلى حالة من القلق عززت المخاوف السابقة بشأن ضعف القوات البرية الإسرائيلية.


لقد فشلت الولايات المتحدة في إدراك الدروس والعبر المستفادة من أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر ، وقد أورثت الفشل إلى الكيان الإسرائيلي، وهي تكرر ذات الأخطاء التي طالما حذرت منها بخطورة نهج الحروب الدائمة والسعي إلى إعادة تشكيل مجتمعات وحكومات الشرق الأوسط من خلال القوة العسكرية. فمن العبث تصور إمكانية استعادة الهيمنة الأمريكية وقوة الردع الإسرائيلية من خلال تحويل غزة ولبنان إلى أنقاض، ودروس العراق وأفغانستان ماثلة للعيان، فالرهان على القضاء على المقاومة وفي مقدمتها حماس في غزة وحزب الله في لبنان لا يعدو عن كونه خيالات وأوهام، والوهم الأكبر يتمثل بإمكانية القضاء على إيران من خلال حرب إقليمية واسعة تدفع إيران إلى حرب مباشرة مع إسرائيل والولايات المتحدة.

ويبدو أن النجاحات التكتيكية باغتيال قادة المقاومة تغري إسرائيل بالمضي قدما، لكن الكيان الإسرائيلي يجد نفسه بعد كل نشوة عابرة في حرب استنزاف، وفي مواجهة حقيقة الحرب الإقليمية بعد تخلي إيران عن استراتيجية “الصبر الاستراتيجي” التي حافظت طهران عليها خلال الحرب، وخرقتها نسبيّا في الرد على قصف قنصليتها في دمشق، من خلال قصف إسرائيل مباشرة بالصواريخ والطائرات المسيّرة خلال ليلة 13 إلى 14 نيسان/ أبريل 2024، والذي ردت عليه إسرائيل بعد أيام قليلة بقصف محدود، وقد تم احتواء هذه الجولة من القصف المتبادل بين إسرائيل وإيران بجهود أمريكية. وعقب اغتيال إسرائيل رئيس حركة حماس إسماعيل هنية في طهران، ثم اغتيال أمين عام حزب الله حسن نصر الله في بيروت، شنت إيران هجوما بالصواريخ الباليستية بنحو 200 صاروخ أطلقت من إيران على إسرائيل في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر 2024، وبعد تهديدات إسرائيلية لإيران بالانتقام من خلال شن هجمات مدمرة وواسعة تطال البرنامج النووي ومنشآت الطاقة، تمخضت التهديدات عن رد باهت في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2024. وأعلنت الولايات المتحدة أنها لم تشارك في الضربات الإسرائيلية، وكشف موقع “واللا” العبري، أن إيران أُعلمت مسبقا بالضربات الإسرائيلية التي نُفذت على العاصمة طهران ومناطق أخرى، وسط سخرية واسعة في الإعلام الإسرائيلي من جدوى الضربة المحدودة.

لقد فشلت إسرائيل باستعادة قوة الردع، ولم تنجح الولايات المتحدة في مسعى استعادة الردع، فالمرتكزات الأساسية للأمن الإسرائيلي كقوة استعمارية تقوم على مفهوم الردع، وهو يعني القدرة على ثني عدو/ خصم عن القيام بأعمال عدائية ضد الدولة، وذلك عن طريق توجيه رسالة مؤداها أن مثل هذه الأعمال لن تكون مجدية بالنسبة إليه. ومن ناحية عملية فإن الردع يهدف الى منع الحرب والعنف، وهو مرتبط عضويا بالقدرة على الحسم والانتصار في الحرب.

فنظرية الردع الإسرائيلية تعتمد على الافتراض بأن نصرا إسرائيليا حاسما في كل مجابهة عسكرية مع العرب يؤدي ليس فقط لإنهاء الحرب، بل يساهم أيضا في إقناع العرب بعقم الخيار العسكري، وهو ما نجح نسبيا مع أنظمة التطبيع العربي المجاني، لكنه فشل بصورة واضحة مع المقاومة الفلسطينية وحركات المقاومة في المنطقة. فقد أثبتت الحروب الأخيرة التي خاضتها إسرائيل في كل من لبنان وغزة، أن ثمة تراجعا ملحوظا في قدرة الجيش الإسرائيلي على حسم المعركة وفق الأسلوب القديم القاضي بتدمير قوات الخصم واحتلال أرضها، وإذا كان مفهوم الردع قد حقق نجاحا نسبيا على صعيد الدول، فإنه يشهد فشلا ذريعا على صعيد الفاعلين من غير الدول من خلال فصائل المقاومة.

خلاصة القول أن عملية “طوفان الأقصى” أطاحت بركائز الأمن القومي الصهيوني واستراتيجية الردع، وفشل المشروع الأمريكي بمغادرة الشرق الأوسط والركون إلى المستعمرة الإسرائيلية، التي باتت عاجزة عن حماية نفسها فضلا عن توفير الحماية للآخرين، وتكشفت عن كيان هش بحاجة للرعاية الأمريكية الدائمة، وتجد أمريكا نفسها منخرطة في مهمة مستحيلة لاستعادة قوة الردع الإسرائيلية وضمان هيمنتها على المنطقة. وفي الوقت الذي كانت ترغب فيه أمريكا بالتفرغ لمواجهة الصين وروسيا تجد نفسها غارقة في الشرق الأوسط دون وجود رؤية استراتيجية واضحة، ولم تعد الخطابات البلاغية الأمريكية الجوفاء حول حل الدولتين مقنعة في الوقت الذي دعمت بطرائق عدة مشاريع الاستيطان.

ومع حرب الإبادة المستمرة في غزة ولبنان تعيش إسرائيل أزمة شرعية هي الأكثر أهمية منذ إنشائها، فقد شهدت السنوات الأخيرة إجماعا في مجتمع حقوق الإنسان العالمي على أن إسرائيل تمارس الفصل العنصري، وهو جريمة ضد الإنسانية. ويؤكد خبراء القانون الدولي على أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية، وهو الرأي الأولي لمحكمة العدل الدولية، وبدأت إسرائيل تتحول إلى دولة منبوذة وهي تخسر الرأي العام في الغرب، وخاصة بين الأجيال الشابة. وفي حين تعترف معظم دول الجنوب العالمي بدولة فلسطين، فإن معظم الغرب لا يفعل ذلك، ومع ذلك، أعلنت النرويج وإسبانيا وأيرلندا مؤخرا اعترافها الرسمي بدولة فلسطينية.

وعقب عام على صمود المقاومة لم تعد استعادة الردع ممكنة، وباتت إسرائيل منكشفة أمام العالم ككيان استعماري عنصري يقوم على الإبادة، وهو في طور الاستنزاف ويسير في طريق شاق نحو التفكك والانهيار.

Exit mobile version