الإعلام الإسرائيلي في ذيل مؤشر حرية الصحافة.. والتضليل والحرب النفسية للإسرائيليين لا حماس

سياسة إخفاء المعلومات المتعمدّة من طرف إسرائيل في خضم حرب الإبادة الحالية على قطاع غزة بلغت مستوى غير مسبوق… فماذا يقف وراء ذلك؟ وكيف تسلك وسائل الإعلام؟

تتواتر في إسرائيل، يومًا بعد يوم، التعليقات على واقع أن الحكومة الحالية بدفع مباشر من رئيسها بنيامين نتنياهو ترجّح الاعتبارات السياسية الداخلية الضيّقة على مواجهة الحقائق الطالعة من سير الحرب التي تشنها على قطاع غزة، جسدًا وبشرًا، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023. وكذلك يأتي هذا الترجيح على حساب التزام هذه الحكومة تجاه “المواطنين [في كل من منطقة الحدود مع قطاع غزة ومنطقة الحدود الشمالية مع لبنان] والجنود الذين تركتهم يواجهون مصائرهم بأنفسهم”، مثلما كتبت عضو الكنيست السابقة من حزب العمل ستاف شابير قبل عدة أيام، والتي أشارت في الوقت ذاته إلى أن الحكومة الإسرائيلية تقوم بشكل متعمّد بإخفاء الواقع عن سكان إسرائيل.
وكتبت شابير تقول: حتى اللحظة الراهنة التي يوجد فيها جنود إسرائيليون في مدينة رفح، فإن المعلومات عن المفاوضات حول صفقة التبادل تأتي من التسريبات والإشاعات. فهل نعرف ما هي مطالب حركة حماس؟ وهل نعرف ما هو موقف إسرائيل منها؟ هذا أمر من الصعب تحمُّله، لكن يمكننا أن نعلم، من خلال الإخفاء المتواصل للمعلومات، أن الحرب النفسية التي تمارسها حكومة نتنياهو لا تستهدف حركة حماس، بل تستهدف بالأساس سكان إسرائيل. وأعربت شابير عن اعتقادها بأن إخفاء المعلومات بشأن صفقة التبادل ليس سوى جزء من ثقافة غياب تحمُّل المسؤولية عمّا أدى إلى طوفان الأقصى.

وفيما يتعلّق بوسائل الإعلام الإسرائيلية فإن الوسيلة الرئيسية لتطبيق سياسة إخفاء المعلومات المتعمدّة هي الرقابة العسكرية. ومثلما سبق أن نوّهنا مرّات عديدة، فإنه باعتراف حتى هيئات إسرائيلية مختصة في درس الإعلام، على غرار الموقع الإلكتروني “العين السابعة”، إسرائيل هي الوحيدة من بين “الدول التي تعتبر نفسها ديمقراطية”، لا تزال فيها رقابة عسكرية تمارس دورًا صارمًا في تقنين وتعقيم كل التقارير والأنباء التي تمت بصلة إلى الأمن وتُنشر على الملأ في وسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة والمرئيّة. وقد شدّدت من قبضتها على نحو غير مسبوق خلال الحرب الحالية ضد قطاع غزة.


“تعبئة المجتمع الإسرائيلي من أقصاه إلى أقصاه إلى ناحية تأييد الحرب، تأدّى عنها عدم حاجة الجيش الإسرائيلي إلى أي شرعية من جانب الجمهور في كل ما يتعلّق بردة فعله العسكرية الأعنف حتى الآن”

ولكن بموازاة الرقابة العسكرية، وربما من فوقها، تقف ذراع أخرى هي “الرقابة الذاتية” التي تلتزم بها وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها مثلما يُستدّل من أدائها في الحرب الحالية، وكلها تقريبًا تصطف في أوقات الحروب وراء شعار “لا صوت يعلو على صوت الأمن”، نفس الأمن الذي هو ديانة أخرى إلى جانب الديانة اليهودية لمعظم الإسرائيليين، كما صرّح قبل فترة وجيزة محلل الشؤون الأمنية الإسرائيلي، يوسي ميلمان، الذي خاض ولا يزال معارك عدّة ضد الرقابة. وهذا أمر غير جديد كل الجدة، فقبل عدة أعوام أشادت رئيسة الرقابة العسكرية الإسرائيلية، سيما فاكنين ـ غيل، لدى إنهاء مهمات منصبها عام 2015 بعد أن شغلته لمدة عشرة أعوام وقعت خلالها الحرب الإسرائيلية الثانية على لبنان (2006) وعدة حروب ضد قطاع غزة (بدءًا من عام 2007)، بالصحافيين الإسرائيليين وخصوصًا الصحافيين العسكريين، وبوسائل الإعلام الإسرائيلية عمومًا، وقالت إنها كانت تحمل رأيًا مختلفًا تماما قبل إشغال منصبها ولكن هذا الرأي تحوّل بمقدار 180 درجة، واكتشفت أنّ الذين يبدون مسؤولية أكبر هم الصحافيون بالذات وليس الذين يقومون على المعلومات التي يتوجب حفظها طيّ السريّة. وفي هذا السياق كان من الملفت أنّها خصّت صحيفة هآرتس تحديدًا بالمديح.

وبالانتقال إلى الحرب الإسرائيلية الحالية على غزة نستعيد ما سبق أن كتبناه ضمن هذا المحور من التناول في مناسبات سابقة ومقامات أخرى:

1- في كل من الحروب السابقة أوجدت إسرائيل الصيغة التي تناسب تغطيتها، أو لعلّ الأصح القول إن الغاية التي تطلعت إليها من وراء كل حرب هي التي كانت بمثابة دليل لها على إيجاد الصيغة الأنسب. مع ذلك هناك من ينوّه بأن المفهوم الذي يحكم سلوك جيوش الدول الغربيّة في العصر الحديث يؤيد التعاون مع وسائل الإعلام في أوقات الحرب. والفرضية الأساسية التي تقف من وراء ذلك مؤداها أن الكثير من العمليات الحربية بحاجة إلى شرح وتأويل، والأهم من هذا بحاجة إلى شرعنة، سواء من حيث سيرها أو من حيث نتائجها. وفي ضوء ذلك، الصلة مع الجمهور العريض لها دور مهم في طرح موقف الجيش وتأجيج رأي عام مؤيد ومساند. هنا بالذات لوحظ وجود تغيير. غير أن تعبئة المجتمع الإسرائيلي من أقصاه إلى أقصاه إلى ناحية تأييد الحرب، تأدّى عنها عدم حاجة الجيش الإسرائيلي إلى أي شرعية من جانب الجمهور العريض في كل ما يتعلّق بردة فعله العسكرية الأعنف حتى الآن، وفي مجرّد هذا ربما يكمن سبب تخلّيه عن تعبئة وسائل الإعلام. 


2- أظهر “مؤشر حرّية الصحافة العالمي”، الذي نشرته منظمة “صحافيون بلا حدود” الدولية في شهر أيار/ مايو 2023، تراجع إسرائيل إلى المرتبة الـ97 من بين 180 دولة يشملها المؤشر، بعد أن كانت تحتل المرتبة الـ88 في مؤشر عام 2022. وورد فيه، من ضمن أمور أخرى، أن ما يصفها بأنها البيئة السليمة لحرية الصحافة الإسرائيلية تقوّضت بعد أن وصلت إلى سُدّة الحكم حكومة تهدّد حرّية الصحافة، في إشارة إلى حكومة بنيامين نتنياهو السادسة الحالية. وبموجب متابعة دقيقة يمكن القول إن نتائج المؤشر قوبلت بتجاهل تام تقريبًا في وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها بمعظمها، مع وجود استثناءات قليلة، كان أبرزها الموقع الإلكتروني “العين السابعة” المتخصّص في نقد الإعلام، والذي نقل تعقيب رابطة الصحافيين في إسرائيل على المؤشر وأكدت فيه أنه بعد خفض الائتمان المستقبلي للاقتصاد الإسرائيلي، نشهد الآن خفض تصنيف إسرائيل في مجال حرّية الصحافة، ما يثبت أن “ثمة عددًا من الأمور المقلقة آخذة بالتراكم، وترسم صورة قاتمة لخطر واضح وفوري يتهدّد الديمقراطية في البلد”. وبغية إظهار حدّة النتيجة المتعلقة بإسرائيل في المؤشر، تعمّد الموقع ذاته أن يلفت الأنظار إلى أمرين: الأول، أن تدريج إسرائيل في مؤشر 2023 جاء أدنى من دول لا تُعدّ ديمقراطية مثل ألبانيا والغابون ومنغوليا وزامبيا وغينيا بيساو وقبرص الشمالية وتوغو وليبيريا وغانا وبوركينا فاسو وساحل العاج وغيرها. الثاني، أن لإسرائيل تأثيرًا على تدريج دولة أخرى هي اليونان التي تدهورت إلى المرتبة 107 بسبب استخدامها منظومة تجسّس إسرائيلية ضد صحافيين. 

تجدر الإشارة إلى أنه في تقارير سابقة من المؤشر ورد زعم يقول إن “الصحافة الإسرائيلية تتمتع بحرية حقيقية قلّ نظيرها في منطقة الشرق الأوسط”، ولكن بالرغم من ذلك “فإن الصحافيين يواجهون بمعظمهم عداء وزراء الحكومة بالإضافة إلى الرقابة العسكرية وقرارات منع تغطية بعض المسائل، منها ما يتعلّق بالفساد، ناهيك عن إجراءات تكميم الأفواه التي تعتمدها دوائر المال والأعمال”. ووصفت التقارير كيف تواترت العديد من “حملات التشهير ضد وسائل الإعلام من جانب بعض السياسيين المدعومين بأحزابهم ومؤيديهم، بحيث تعرّض عدد من الصحافيين إلى مضايقات وتهديدات مجهولة الهوية، ما اضطر بعضهم إلى طلب حماية شخصية حفاظًا على سلامتهم”. وجرى التنويه في حينه بأن الصحافيين، الذين قاموا بتحقيقات استقصائية متعلقة بشبهات الفساد التي تحوّلت إلى بنود في لائحة الاتهام الرسمية المقدمة ضد رئيس الحكومة نتنياهو، كانوا أكثر من تعرّض إلى ملاحقات وتهديدات.


“تدريج إسرائيل في “مؤشر حرّية الصحافة العالمي” 2023 جاء أدنى من دول لا تُعدّ ديمقراطية مثل ألبانيا والغابون ومنغوليا وزامبيا وغينيا بيساو وقبرص الشمالية وتوغو وليبيريا وغانا وبوركينا فاسو وساحل العاج وغيرها”

بطبيعة الحال، بالإضافة إلى ما تحمله الحكومة الإسرائيلية الحالية في أحشائها من مخاطر على حرية الصحافة، والتي تشي بآخر التحوّلات الطارئة على المجتمع الإسرائيلي وحقله السياسي، توقف مؤشر العام الماضي، كما مؤشرات الأعوام التي سبقته، عند مخاطر نعتها بأنها تقليدية تتهدّد حرية الصحافة وإسرائيل مبتلاة بها منذ أعوام طويلة، مثل التضييق على الصحافيين الفلسطينيين، وقيود الرقابة العسكرية الصارمة، وإكراهات قطاع المال والأعمال.   

ولم تتعذّر أي محاولة من جانب التقارير السابقة للإمساكِ بمفاعيل هذه المخاطر، أو تكوين إحاطة عنها اعتمادًا على الوقائع فقط. وبخصوص الرقابة العسكرية لوحدها جاء في تقرير حديث لمنظمة “فريدوم هاوس” الأميركية أن المقالات المطبوعة حول المسائل الأمنية تخضع كلّها إلى رقابة عسكرية، كما أن المكتب الصحافي الإسرائيلي الحكومي يحجب من حين إلى آخر بطاقات صحافية من صحافيين لمنعهم من دخول إسرائيل بحجة “الاعتبارات الأمنية”.

3- في الحرب الحاليّة على قطاع غزة، لا تنحصر الإشكالية التي طغت على أداء وسائل الإعلام الإسرائيلية في الرقابة العسكرية، بل تتعدّى ذلك إلى مساهمة وسائل الإعلام هذه في تشكيل ما وصفه الإعلامي الإسرائيلي يزهار بئير بـ “الوعي الزائف” والتي لا تتطلب الكذب بالضرورة بل يمكن تحقيق النتائج أيضًا عن طريق حجب معلومات، وبواسطة تشجيع الجهل، لأن الجهل لا يقل غائيّة عن الوعي، وشغف الجهل هو أقوى شغف في حياة الشخص وأقوى من الشغفين الآخرين، الحب والكراهية، كما قال المحلل النفسي والمنظّر الفرنسي جاك لاكان. ويلفت بئير إلى دراسة استقصائية أجرتها جامعة “فيرلي ديكنسون” في نيوجيرسي في الماضي، وتوصلت إلى نتيجة فحواها أن هناك أنباء تجعل الناس يعرفون أقل. ووجدت أنه بعد مشاهدة منهجية لقناة “فوكس نيوز”، كان مشاهدوها أقل معرفةً ودرايةً بالحقائق مقارنة بمجموعة اختبار لم يستهلك مشاركوها أي أخبار على الإطلاق. وبالتالي، فإن وسائل الإعلام لديها القدرة ليس فقط على تأطير الواقع وملء وعي المستهلكين بالمضمون والفهم، بل يمكنها أيضًا اختراق عقولهم وإفراغها من المعلومات الموثوق بها، ومن الفهم السياسي الذي يحثّ- من بين أمور كثيرة يحثّ عليها- على المساءلة والتفكّر والتبصّر.

4- إن القول بأن كل هذا الواقع جديد فيه قدر من العمى أو التعامي. ولا شكّ في أن لوسائل الإعلام الإسرائيلية الكثير من الأسبقيات في هذا الصدد. وبغية تسليط الضوء على بعض هذه الأسبقيات يكفي أن نستعيد وصف البروفيسور الإسرائيلي الراحل زئيف شتيرنهل، وهو من أبرز المتخصصين في موضوع الفاشية، سلوك المثقفين والإعلاميين خلال الحرب الإسرائيلية ضد غزة عام 2014 بأنه يحيل إلى سلوك القطيع. ففي سياق مقابلة أجرتها معه صحيفة “هآرتس” في شهر آب/ أغسطس 2014 رأى شتيرنهل أن ما اتسمت به تلك الحرب كان سلوك المثقفين في إسرائيل، وبرأيه “ما حدث عندنا هو التزام مطلق بالخط الرسمي من جانب معظم المثقفين والسير مع القطيع. والمثقفون بالنسبة إليّ هم الذين يحملون لقب بروفيسور والصحافيون. أمّا إفلاس الإعلام الجماهيري في هذه الحرب فهو مطلق. وبالرغم من أنه ليس سهلًا الوقوف أمام قطيع وبالإمكان أن تداس بسهولة، فإن دور المثقف والصحافي ليس التصفيق للسلطة الحاكمة. ولقد رأيت خلال الحرب كيف أن الجامعات أيضًا استقامت وفقًا لمقاربة السلطة والأغلبية الصارخة في الشارع، وربما هذا هو الأمر الأكثر خطورة”.
وبرأي شتيرنهل تنهار الديمقراطية عندما يستقيم المثقفون والفئة المثقفة مع نزعات البلطجة من دون أن يعيروا انتباهًا إلى أن ذلك يقترب من الفاشية، والتي هي في الجوهر الحرب ضد التنوير والقيم الكونية.

ضفة ثالثة

Exit mobile version