الانسحاب الذي لم يحدث.. كيف أدارت الإمارات اليمن بـ”استراتيجية الوكلاء” منذ 2019؟!

أعلنت وزارة الدفاع الإماراتية، الثلاثاء، إنهاء ما تبقّى من وجودها العسكري في اليمن، واضعة بذلك “نقطة ختام” على الأقل رسمياً، على حضور قالت أبوظبي إنه اقتصر خلال السنوات الأخيرة على “فرق مختصة بمكافحة الإرهاب”.

الإعلان، الذي جاء عقب ضربة جوية نفّذها سلاح الجو السعودي واستهدفت شحنات عسكرية في ميناء المكلا، بدا محاولة استباقية لإعادة ضبط الرواية، وتخفيف وطأة الاتهامات المتصاعدة بشأن دور الإمارات في دعم تمرّد المجلس الانتقالي الجنوبي وتقويض سلطة الدولة اليمنية.

ولم يكن هذا البيان معزولاً، إذ جاء بعد وقت قصير على بيان لوزارة الخارجية الإماراتية نفت فيه ما وصفته بـ”الادعاءات” حول طبيعة الشحنات التي وصلت إلى ميناء المكلا خلال اليومين الماضيين، مؤكدة أن العربات التي استُهدِف جزء منها فجر الثلاثاء “لم تتضمن أي أسلحة”، ولم تكن مخصصة لأي طرف يمني، بل جرى شحنها لاستخدام القوات الإماراتية العاملة في اليمن.

ورغم أن تناقض البيانين بين “فرق مختصة” ما يعني عدد قليل في بيان وزارة الدفاع، وعشرات العربات والمدرعات التي “جرى شحنها لاستخدام القوات الإماراتية العاملة في اليمن”، إلا أن أبوظبي تركتنا دون تفسير ومضت في بيان خارجيتها مؤكدة وجود “تنسيق عالِ المستوى” مع السعودية، واتفاق على عدم خروج تلك العربات من الميناء، قبل أن تنتقل لموقع المتفاجئ فتعبّر عن “تفاجئها” باستهداف تلك الشحنة، التي شوهدت عربات منها وقد تسللت خارج ميناء المكلا متجهة نحو معسكرات ومواقع تابعة للمجلس الإنتقالي.

وفي البيانين، أعادت الإمارات التذكير بأنها شاركت في التحالف العربي منذ عام 2015 “بدعوة من الحكومة الشرعية”، وبهدف دعم استعادة الدولة ومكافحة الإرهاب، مع الالتزام باحترام سيادة اليمن.

غير أن هذا الخطاب الدفاعي، الذي تزامن مع إعلان إنهاء تواجد قواتها، لم ينجح في تبديد الأسئلة الجوهرية التي أعادت التطورات الأخيرة طرحها، فإذا كانت الإمارات قد أنهت وجودها العسكري فعلياً منذ 2019، فما الذي كانت تفعله هذه الشحنات في ميناء المكلا؟

تسلسل الوقائع، منذ إعلان أبوظبي تقليص وجودها العسكري في يوليو 2019، يكشف أن ما جرى لم يكن انسحاباً بقدر ما كان إعادة تموضع مدروسة. ففي ذلك الشهر، أعلنت الإمارات سحب قواتها في خطوة وُصفت حينها بأنها تحوّل استراتيجي نحو “السلام أولاً” واعتماد “الاقتراب غير المباشر”، بدا الإعلان، للوهلة الأولى، نهاية لحضور عسكري مباشر استمر أربع سنوات، لكنه سرعان ما تكشّف بوصفه انتقالاً من الوجود المكشوف إلى إدارة النفوذ من الخلف، عبر شبكة واسعة من الوكلاء المحليين.

وجاء ذلك الإعلان في سياق إقليمي ودولي بالغ الحساسية، إثر انتقادات حقوقية متصاعدة بشأن السجون السرية وحملات الاغتيالات، وضغوط سياسية من الحكومة اليمنية الشرعية، وتصاعد التوتر في الخليج مع إيران وما رافقه من مخاوف أمنية مباشرة على الداخل الإماراتي.

في هذا المناخ، بدا “الانسحاب” محاولة لتقليل الكلفة السياسية والأمنية وتحسين الصورة الخارجية، من دون التفريط بالمكاسب الاستراتيجية التي راكمتها أبوظبي منذ تدخلها العسكري عام 2015.

عملياً، لم تُفكك البنية العسكرية والأمنية التي أنشأتها الإمارات خلال سنوات تدخلها المباشر، ولم تُدمج التشكيلات المسلحة التي درّبتها ومولتها في مؤسسات الدولة اليمنية، وعلى العكس، استمرت هذه التشكيلات في أداء دورها كقوة موازية، تُدار خارج وزارتي الدفاع والداخلية، وتتحكم بالمطارات والموانئ والموارد العامة، في نموذج يقوم على “الإدارة غير المباشرة” وتجنّب تحمّل المسؤولية القانونية والسياسية.

ورغم أن اتفاق الرياض نصّ صراحة على دمج جميع التشكيلات المسلحة ضمن مؤسسات الدولة، فإن هذا البند ظل معطّلاً، بفعل النفوذ الإماراتي ورغبتها في الإبقاء على هذه البنية كأداة تأثير وتحكّم ميداني.

وتشمل هذه الشبكة قوات المجلس الانتقالي الجنوبي بتشكيلاته المختلفة من الحزام الأمني وقوات الصاعقة والدعم والإسناد، إلى جانب وقوات دفاع شبوة والنخبة والدعم الأمني في حضرموت وحراس الجمهورية ومعها بعض ألوية المقاومة في ساحل محافظتي تعز والحديدة غربي البلاد، ما مكّن أبوظبي من بسط نفوذ فعلي على معظم المحافظات المحررة بما فيها الموانئ والمطارات، وشريط جغرافي وساحلي حيوي يمتد من مديرية حيس غربي البلاد على البحر الأحمر، مروراً بالممر الاستراتيجي في باب المندب، ثم لحج وعدن أبين جنوباً، ثم شبوة وحضرموت شرقاً وصولاً إلى المهرة على بحر العرب في أقصى الشرق اليمني بمحاذاة الحدود مع سلطنة عمان.

سردية “الانسحاب” تعرّضت لاختبار مبكر في أغسطس 2019، فبعد أسابيع فقط من إعلان تقليص الوجود العسكري، شنّت الطائرات الإماراتية غارات جوية استهدفت قوات الجيش الوطني عند مداخل عدن، أثناء محاولتها استعادة المدينة من قبضة المجلس الانتقالي. أسفرت الغارات عن مقتل وإصابة مئات الجنود، ووصفتها الحكومة اليمنية حينها بأنها خرق فاضح للقانون الدولي وانحراف خطير عن أهداف التحالف، في واقعة أسقطت عملياً ادعاء الحياد أو الانسحاب.

منذ ذلك الحين، برز المجلس الانتقالي الجنوبي بوصفه الوكيل المركزي للنفوذ الإماراتي في الجنوب اليمني، كيانٌ انتقل، بدعم مباشر من أبوظبي، من حركة احتجاجية إلى سلطة أمر واقع تسيطر على عدن ومعظم المحافظات الجنوبية، قبل أن تمتد محاولاته إلى محافظات الشرق، بما فيها شبوة وحضرموت التي كان فعلياً يسيطر على ساحلها، والمهرة. وتشير تقارير بحثية غربية إلى أن الإمارات انتهجت منذ 2017 مساراً منفصلاً داخل التحالف، قائماً على دعم مشروع انفصالي، في مقابل تقليص نفوذ الحكومة الشرعية في تلك المناطق.

على الساحل الغربي، اتخذ الدور الإماراتي شكلاً موازياً عبر دعم قوات تعمل خارج بنية الجيش الوطني، وتتركز مهمتها على الشريط الساحلي وباب المندب، أحد أهم الممرات الملاحية في العالم. أما في الجزر اليمنية، وفي مقدمتها سقطرى في المحيط الهندي، وميون/بريم بباب المندب، فقد انتقل الحضور من وجود عسكري مباشر إلى ما يشبه “الاحتلال الناعم”، عبر السيطرة على الموانئ والمطارات والمنشآت الحيوية، وفرض نفوذ اقتصادي وخدمي يشمل قطاع الاتصالات والبنية التحتية، ما خلق واقعاً جديداً تتحكم فيه شركات أجنبية بمفاصل الحياة اليومية للمواطنين، مع تسليم الإدارة لحلفاء محليين.

ورغم الخطاب الرسمي المتكرر حول “إنهاء الدور العسكري” والتوجه نحو السلام، فإن الوقائع على الأرض عكست مساراً مغايراً، فالأدوات المحلية المدعومة من أبوظبي واصلت تقويض مؤسسات الدولة وتعميق الانقسامات، في مسار حذّرت منه تقارير دولية، من بينها تقارير فريق خبراء مجلس الأمن، التي أشارت إلى دور أطراف خارجية في دعم كيانات مناوئة للحكومة الشرعية بما يهدد فرص السلام.

بعد أكثر من ست سنوات على إعلان الانسحاب الأول، ومع إعلان وزارة الدفاع إنهاء ما تبقّى من فرقها اليوم، يتأكد أن الإمارات لم تغادر اليمن بقدر ما غادرت واجهة الصراع، فقد حافظت على حضور فعلي عميق عبر شبكة وكلاء ونفوذ جغرافي واقتصادي، وبأقل كلفة مباشرة ممكنة، غير أن ثمن هذه الاستراتيجية ظل يمنياً خالصاً، وتمثل في إطالة أمد الحرب، تعميق التشظي السياسي والجغرافي، وإضعاف فكرة الدولة، في بلد يدفع شعبه كلفة صراع لم يعد يملك قراره.

Exit mobile version