لم تكن كلمة “هبرة” التي قالها رئيس النظام المصري، عبد الفتاح السيسي، مجرد كلمة عابرة، أو سقطة تنضم إلى مجموع سقطاته، لكنها كلمة كاشفة تفضح الذمة المالية للسيسي التي أصبحت في عهده مستندا سريا يحظر الإفصاح عنه بالمخالفة للمادة 145 من الدستور.
وعادة ما تستخدم كلمة “هبرة” أو “الهبر” في اللهجة المصرية العامية للتعبير عن نهب الأموال أو الاستيلاء على ما يمتلكه الآخرون دون رقيب أو حسيب، لذا أثار ذكرها على لسان السيسي تساؤلات واسعة عن حقيقة الطريقة التي تتم بها إدارة الدولة، وصرف أموالها، واتخاذ قرارات دون مراجعة الميزانيات أو دراسة الموقف، وهو ما دفع “عربي21” إلى فتح ملف الذمة المالية للسيسي المسكوت عنه.
في حديثه، الأربعاء الماضي، باحتفالية لذوي الهمم، أثار السيسي جدلا واسعا على مواقع التواصل الاجتماعي بإطلاقه جملة “لازم ناخد هبرة” خلال مطالبته رئيس الوزراء، مصطفى مدبولي، بتخصيص 10 مليارات جنيه لدعم صندوق “قادرون باختلاف”، في قرار اتخذه على الهواء مباشرة.
المثير أن “هبرة السيسي” كانت في سياق نشوة ما بعد صفقة بيع “رأس الحكمة” للإمارات مقابل 35 مليار دولار، وهو ما ظهر جليا على لغة جسده وارتفاع معنوياته خلال حديثه -بحسب مختصين-.
ويخشى مراقبون، أن يبدّد السيسي أموال الصفقة الجديدة، التي أثارت غضب المصريين، كما بدد سابقا مليارات الدولارات من الدعم الخليجي السخي غير المسبوق والمستمر منذ انقلاب 3 تموز/ يوليو 2013.
“بلا ذمة مالية”
وأجرى السيسي 3 انتخابات رئاسية منذ الانقلاب العسكري، دون أن يقدم أي معلومة للبحث عن ذمته المالية ونشرها للجمهور، بالمخالفة للمواد (145) و(109) و(166) من الدستور المصري التي تلزم رئيس الجمهورية بتقديم إقرار ذمة مالية عند توليه المنصب، وعند تركه، وفي نهاية كل عام، ونشرها بالجريدة الرسمية.
ورغم مزاعم الحملة الانتخابية للسيسي، في كانون الثاني/ يناير 2018، بأن إقرار الذمة المالية للرئيس منشور بالجريدة الرسمية، ومثبت به تبرع السيسي بنصف ثروته لصندوق “تحيا مصر”، إلا أن تحقيقا استقصائيا نشره موقع “مدى مصر” أثبت عدم وجود أية إقرارات ذمة مالية للسيسي في انتخابات 2014 و2018. فيما نقل الموقع على لسان المدير التنفيذي للهيئة الوطنية للانتخابات المستشار، علاء فؤاد، أن إقرار الذمة المالية الخاصة بالسيسي مستند سري يحظر الإفصاح عنه.
ولم تتوصل “عربي21” كذلك إلى أية إقرارات ذمة مالية للسيسي بالجريدة الرسمية قبل انتخابات كانون الأول/ ديسمبر 2023.
وطوال فترة حكم السيسي، يعاني المصريون من الفقر والبطالة وتفاقم معدلات التضخم، وتراجع دخول المصريين مع تآكل قيمة الجنيه المصري، وتغول فوائد الديون وأقساطها على الموازنة العامة، في ظل الإنفاق العشوائي للسيسي، على مشروعات لم تحقق أية جدوى اقتصادية، وذلك بحسب خبراء وتصريحات السيسي نفسه.
“على شاكلة هبرة”
واعتاد السيسي خلال كلماته بالمؤتمرات والندوات واللقاءات على مفاجأة الجماهير بكلمات “على شاكلة هبرة” مثل “صبح على مصر بجنيه” والتبرع بـ”الفكة” لصندوق تحيا مصر، وقوله “الفلوس، الفلوس، الفلوس، أهم حاجة في الدنيا، لو معاك فلوس هتعرف تأكل وتشرب وتبني”، “ادوني 20 تريليون دولار في السنة وأنا أخلي مصر دي عروسة”، وهو ما اعتبره متابعون سقطات كاشفة عن نهمه وحبه لجمع الأموال ووضعها في صناديق خاصة لا تخضع للرقابة ويشرف عليها بشخصه.
“عزبة السيسي”
خلال عقد من حكمه لمصر فعليا، ظل السؤال حاضرا عن كيفية إدارة الأمور “المالية” في مصر، وذلك في ظل غياب تام للتقارير الرسمية المعلنة عن أوجه صرف كل ما حصل عليه السيسي من أموال، ما دفع البعض لوصف مصر بـ”دكان”، أو “عزبة” السيسي، أو “جمهورية الخوف”.
وفي كانون الأول/ ديسمبر 2022، اعترف السيسي، بسيطرته وانفراده بقرار صرف الأموال، قائلا: “لا تعرفوا أنا في الفلوس عامل إزاي، ومحدش هيصرف جنيه من الصناديق إلا لما يقول لي”.
ووضعت تقارير “منظمة الشفافية الدولية” مصر بموقع متأخر بمؤشر مدركات الفساد طوال سنوات حكم السيسي، فيما تتذبذب درجتها حول 35 من 100 درجة، لأكثر من 10 سنوات.
“مغارة الصناديق”
وإلى جانب 55 هيئة اقتصادية في مصر لا تخضع موازناتها للموازنة العامة المصرية، توجد في مصر الصناديق الخاصة التي من سلطة الوزراء والمحافظين إنشاءها، بجانب الصناديق السيادية التي دشنها السيسي، ويشرف بنفسه عليها وعلى حجم أموال غير معلنة، في أي موازنة أو تقرير رسمي.
ومنذ تولي السيسي الحكم عام 2014، تم إنشاء العديد من الصناديق الخاصة تحت إشرافه المباشر، وفرض السرية على حساباتها بإصدار قرارات وقوانين تلغي الرقابة المالية عليها وتعفي عوائدها من الضرائب مثل صندوق “تحيا مصر”، وصندوق “مصر السيادي”، الذي نقل إليه ملكية 13 وزارة وجهة حكومية بوسط العاصمة القاهرة وأصول تاريخية واستثمارية أخرى، وكذلك “صندوق قناة السويس”، و”صندوق دعم الأسرة المصرية”.
وإلى جانب الصندوق السيادي وما يتفرع عنه من نحو 6667 صندوقا خاصا تعمل بمبالغ كبيرة لم يكن لها حصر مالي حتى وقت قريب، ولكن تقديرات وزارة المالية تشير إلى أنها تصل إلى تريليونات الجنيهات، بحسب تأكيد مسؤول مصري لوكالة “أنباء العالم العربي”.
وفي أيار/ مايو الماضي، وفي مقال له بصحيفة “الأهرام” الحكومية، أكد الكاتب الاقتصادي، عبد الفتاح الجبالي، أن عدد الصناديق والحسابات الخاصة بلغ 6451 في حزيران/ يونيو 2021، فيما قدر أموال تلك الصناديق بـ81.2 مليار جنيه، وفق تقديرات أيلول/ سبتمبر 2022.
أين تذهب أموال الصناديق؟
اعتبر مراقبون أن حرص السيسي على إنشاء هذا العدد الكبير من الصناديق يأتي ضمن الحديقة الخلفية لاقتصاد السيسي الموازي لاقتصاد الدولة المصرية، وبهدف تكريس عمليات بيع الأصول العامة والمقرات والشركات والأراضي الحيوية ذات الأهمية الاستراتيجية والأمنية.
وفي تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وبمؤتمر “حكاية وطن” اعترف السيسي، أن “الرقابة على تلك الصناديق ومنها (تحيا مصر)، و(هيئة قناة السويس) تحت إشراف مباشر لرئيس الجمهورية”.
وأكد أن “صندوق تحيا مصر يقوم بدور كبير جدا، ولا يتم الحديث عنه كثيرا”، في إشارة إلى تحكّمه منفردا على أموال الصندوق وما يدخله من أموال والمنصرف منها.
وقال: “يجب أن يعلم الناس لماذا نحن حريصون على أن يكون لدينا صناديق تجمع الأموال، مثل صندوق تحيا مصر، وصندوق هيئة قناة السويس، واستثمار تلك الأموال والاستفادة من عوائدها، حيث إن موازنة الحكومة لها حدود”.
“وضع هلامي”
وحول الذمة المالية للسيسي، وحجم ما يديره من أموال، وقيمة ما حققته قرارته من مكاسب أو خسائر طالت الاقتصاد المصري وموازناته طوال 10 سنوات، وما عاد منها على أكثر من 106 ملايين مصري، أو جرى خصمه من حقوقهم ومدخراتهم، قال الخبير الاقتصادي المصري، ممدوح الولي، إن “الوضع القائم في مصر منذ 10 سنوات هو وضع هلامي، ومن المفترض أن أية جهة بها إيرادات ومصروفات أن تخضع لقانون الموازنة العامة للدولة التي بها 8 بنود محددة للمصروفات، و5 بنود معروفة للإيرادات”.
وأضاف الولي في حديثه لـ”عربي21″: “لدينا جهات سيادية عديدة لها موازنات تكتب من سطر واحد فقط، دون توضيح الإيرادات أو المصروفات، وبينها الجيش، والبرلمان، ورئاسة الجمهورية، وغيرها”.
وأوضح الخبير الاقتصادي المصري أن “الأمر لم يظل حتى على هذه الوتيرة بنشر موازنة تلك الجهات من سطر واحد بل تعداه إلى منع نشر أي شيء عن بعض الموازنات، واستثناء بعض تلك الجهات من نشر حتى ذلك السطر الواحد”.
وتساءل: “كيف نطرح السؤال عن الذمة المالية لرئاسة الجمهورية في ظل ما سبق ذكره؟”، مبينا أنه “لا قواعد لدينا، ولا التزام بنص دستوري حول الذمة المالية للمسؤولين الحكوميين والوزراء وحتى رأس السلطة”.
ولفت إلى أن “الطريقة التي تدار بها مصر، يراها الجميع عبر تصريحات بعض المسؤولين”، ملمحا إلى “حديث رئيس هيئة قناة السويس السابق الفريق مهاب مميش، عن فكرة طرح حفر تفريعة قناة السويس، وأنه أخبر السيسي بها ليلا ورد عليه في الصباح بأمر التنفيذ، دون دراسات جدوى أو رسوم هندسية أو مراجعة الحكومة ووزارة المالية وبنود الموازنة العامة”.
وقال: “ماذا تنتظر أن يحدث لدولة تدار بهذه الطريقة؟”، مضيفا أن “الأوضاع غير طبيعية ولا معيار لأي شيء، ولا يستطيع برلمان أو جهة رقابية أن تسأل عن الذمة المالية، لأنه من الأساس لم يسأل عن أمور أخرى مثل القروض والاتفاقيات والصفقات وغيرها”.
“منظومة فساد متكاملة”
وحول سقطات السيسي المتكررة، قال أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية، عصام عبد الشافي، إن “حديث رأس النظام وسقطاته الكاشفة عن كيفية إدارة الأمور، ليست السقطة الأولى؛ ولكن هناك عشرات السقطات”.
ولفت عبد الشافي في حديثه لـ”عربي21″ إلى بعضها ضاربا المثل بـ”الإسناد بالأمر المباشر في المشروعات، وفي العشوائية في الحديث عن الصناديق الخاصة التي يتم إنشاؤها، وأيضا الحديث عن بناء القصور الرئاسية عندما أثير هذا الملف عام 2019″.
وأضاف: “وبالتالي فإن الحديث عن أي تفاصيل ذمة مالية للسيسي، أعتقد أن هذا غير قائم، كما أعتقد أن الحديث عن ربط الذمة المالية بوجود نصوص دستورية تنص على ذلك فمن وجهة نظري هي عبارات لا قيمة لها ولا محل لها من الإعراب”.
وأوضح أن “هذا الدستور هم الذين وضعوه والذين انتهكوه عشرات المرات؛ سواء فيما يتعلق بالحقوق والحريات، وفيما يتعلق بنص الدستور نفسه، وفيما يتعلق بالتنازل عن الأرض، كما حدث بالنسبة لجزيرتي (تيران وصنافير) عام 2016، أو ما يتعلق بإتمام الاتفاقيات الدولية”.
وأكد عبد الشافي، أنه “بالتالي فالحديث عن أن هناك نصوصا دستورية تفرض على المرشحين أو القائمين بأعمال سلطة سيادية تقديم إقرار ذمة مالية فهذا نوع من العبثية في ظل نظام لا يحترم القانون ولا يحترم الدستور”.
وقال إن “السقطات التي تفضح الذمة المالية لرأس النظام كثيرة، وكما أشرت مثل الحديث عن الإسناد المباشر، والصفقات التي لا تنتهي، والمليارات التي تدفقت إلى مصر، منها عندما تحدث في المؤتمر الاقتصادي عام 2015، عن أن الأشقاء بالخليج وفروا أكثر من 450 مليار دولار”.
ويرى الأكاديمي المصري، أن “الحديث عن الصفقات التي لم يتم الإعلان عن نصوص الاتفاقيات الخاصة بها، وآخرها ولن تكون الأخيرة صفقة (رأس الحكمة)، على سبيل المثال”.
ويعتقد بالتالي أن “الإجابة على السؤال: كيف تدار الأمور المالية في مصر؟، تتمثل في القول إنها تدار بلا تخطيط، تدار بلا اتفاقيات ملزمة، تدار بلا شفافية، تدار بلا وضوح في الرؤية والمعلومات، وفي غياب كامل للقانون”.
وأكد أنه “ولذلك عندما نتحدث عن عشرات الصناديق التي تم تدشينها وتم إدارتها خلال المرحلة الماضية، فأعتقد أن الهدف الرئيس منها هو تفريغ ميزانية الدولة الرسمية بشكل كامل من مئات المليارات، لا أقول العشرات التي تتدفق على الدولة من القروض، والمنح، والمساعدات، وعمليات البيع والشراء، سواء في تجارة الآثار، أو الذهب، أو في تجارة الأراضي، أو منح الجنسيات”.
وختم بالقول: “كل هذه الأمور تكشف عن خلل كامل، بل منظومة فساد متكاملة الأركان”.
.
المصدر : عربي21