“القاهرة مؤرخة”: عن أي قاهرة نتحدث؟

حاول المؤرخ المصري نزار الصياد في السنوات الأخيرة، فتح أكثر من ورشة عمل حول الكتابة عن القاهرة، وهو ما بدا بشكل جدي في كتاب «القاهرة والسينما» الذي تناول تاريخ المدينة من خلال أفلام السينما. مؤخرا، وفي السياق ذاته، أشرف الصياد على تحرير كتاب آخر في جزئين تحت عنوان «القاهرة مؤرخة»، دار العين. يعتقد الصياد في مقدمته للكتاب أنه عند الحديث عن القاهرة يجب أن نطرح تساؤلا، وهو عن أي قاهرة نتحدث وباسم من؟ فهناك القاهرة مدينة العمال والمهاجرين القادمين من الريف، الذين يحتفظون بعلاقتهم بالقرى التي جاؤوا منها، والقاهرة مدينة العشوائيات التي تشكل ما يقرب من نصف مساحة المدينة، والقاهرة مدينة المجتمعات المسورة التي تشعر بأن سكانها كأنهم يعيشون في عالم آخر، والقاهرة مدينة الجيوب العمرانية، التي تحتوي على مراكز التسوق العالمية، والقاهرة مدينة الكتّاب والخبراء الذي يقضون حياتهم يحاولون اكتشافها.

يتناول الجزء الأول من الكتاب تاريخ المدينة من بداية دخول الإسلام مصر، ‏وحتى بداية القرن العشرين. فقبل خمسة آلاف عام كانت هناك بقعة حاضرة مزدهرة، وهي اليوم لا تزيد على بضعة أطلال على بُعد قرابة 24 كم جنوب القاهرة ‏في الضفة الغربية من النيل، لكن لم تكن الأصل الذي انبثقت منه القاهرة، إذ إن هذه البذرة هي القلعة الرومانية، التي لا تزال بقاياها موجودة على بعد 5 كم جنوب وسط المدينة الحالي، حيث بنى العرب مدينة الفسطاط عام 641م ـ 20‏ هـ. من طرفه يحلل ناصر رباط، المكونات المعمارية التي شكلت العمارة المملوكية في القاهرة، إذ يبين كيف أن العصر المملوكي الأول لم يكن عشوائيا من الناحية التخطيطية، وكيف لعب الإقطاع وتوظيف الأوقاف ‏والحد من توريث الأبناء، دورا كبيرا في تحفيز المماليك على البنيان، ‏كوسيلة لنقل الثروة ‏لذريتهم.
يستخدم الرباط الدرب الأحمر كمثل يعد إبداعا مملوكيا خالصا، بدأ برغبة سلطانية بوصل القاهرة الفاطمية بالقلعة، عمرانيا وبصريا ومراسميا. كما يشرح كيف تحول شكل الشارع وامتداده على مدى الفترة المملوكية كلها، لكي يستجيب لعمارة المباني المهمة على طرفيه ولكي يبقى المرور سالكا من المدينة إلى القلعة، حيث تنافست هذه الأبنية المملوكية في السيطرة البصرية والفراغية على الشارع، وفي لفت انتباه المارة. حوّل المماليك الدرب الأحمر، كما فعلوا في الشارع الأعظم، وفي خط الصليبة ‏باستخدام قبابهم الضريحية، إلى درب للاستعراض، حيث قدم معماريوهم أفضل ما لديهم من الابتكارات البصرية والفراغية لإبهار السكان.

من الفصول الغنية في الكتاب أيضا الفصل الذي كتبه المؤرخ المصري خالد فهمي، حول تشكل مؤسسة الشرطة في القاهرة في القرن التاسع عشر. كانت القاهرة طوال الحقبة العثمانية تتمتع بدرجة عالية من الإدارة الجيدة، وكانت معدلات الجريمة في هذه الحقبة، التي امتدت لثلاثة قرون، منخفضة بشكل ملحوظ. فعلى الرغم من افتقار المدينة لمجلس محلي مستقل، كانت هناك قواعد لحفظ الأمن، على الرغم من حالة التقاتل المستمر بين النخب العسكرية المختلفة، لكن أهمية قواعد حفظ الأمن تلك تتضاءل حينما نقارنها بمثيلاتها في القرن التاسع عشر الذي شهد ميلاد نظام الشرطة الحديث الذي نعرفه الآن. وقد لاحظ أندريه ريمون من خلال دراسته لسجلات المحاكم الشرعية، أن القاهرة شهدت تطورا ملموسا خلال القرون الثلاثة العثمانية. فبعد دراسة الإحصاءات الحيوية للمدينة، والخرائط التي توضح توسعها العمراني، خلص إلى أنه رغم أن المدينة لم تكن في مأمن من الكوارث الطبيعية الكبيرة، التي كانت تتمخض عن انتشار الأوبئة والمجاعات. يلاحظ فهمي أن القاهرة قبل قدوم الفرنسيين كانت عبارة عن أحياء سكنية ذات بوابات تغلق أثناء ساعات الليل لحفظ الأمن. وكان لكل حارة شيخ، يسمى شيخ الحارة، الذي كان مسؤولا عن حفظ الأمن فيها. وفي السنوات الأولى من الحكم العثماني، وبعيد استيلاء السلطان سليم على المدينة عام 1517، أسندت مسؤولية حراسة المدينة ككل، وقلعة القاهرة بشكل خاص، لطائفة الإنكشارية، وأصبحت مهمة أغا الإنكشارية (أي قائدها) هي إدارة شرطة المدينة أثناء النهار، وعموما كان حفظ الأمن في المدينة، يقع بالأساس على عاتق الحارات وطوائف الحرف . فبحكم كونها أماكن منغلقة بشكل ما، مارست الحارات مهمة حفظ الأمن فيها، مع ما تشمله تلك المهمة من حماية الأهالي من الاقتتال الدائر بين البيوتات الحاكمة، وحل الأزمات النابعة من الحارات نفسها، والتعرف على الأشخاص الذين يلاحقهم الوالي أو الأغا، والقبض عليهم وتسليمهم.

مع قدوم بونابرت وقواته أرض مصر في 2 يوليو/تموز 1798، أبقى على الثلاثي المتمثل في الأغا والوالي والمحتسب، ولكنه أدرك أيضا الدور الحيوي، الذي لعبه مشايخ الحارات، ومشايخ الطوائف، بالإضافة إلى تلك الوسائل لحفظ الأمن التي اتبع فيها الفرنسيون العرف السائد وقتها، ابتدعت سلطات الاحتلال وسيلتين جديدتين تمثلان تطورا مهما في طرق السيطرة الأمنية على المدينة كانت أولى تلك الوسيلتين ذات طابع طبوغرافي، فقد رأى الفرنسيون أن الحارات العديدة مع ما فيها من دروب وسكك متعرجة ومقفولة، تمثل خطرا أمنيا على جيش الاحتلال؛ لذا قرروا تجميع حارات القاهرة في ثمانية أخطاط، ووضعوا كل خط تحت رئاسة قائد عسكري فرنسي كما قرروا نزع بوابات الحارات. ومع قدوم محمد علي، بدا يولي شأنا كبيرا لأي إشاعات تنتشر في المدينة، ما دفعه لبناء نظام أمني جديد يقوم على شخصية «الضابط»، وفي أحيان أخرى كان اسمه «ضابط بك» الذي انحصرت مهمته في الحفاظ على الأمن في المدينة ككل. وقد تربع هذا المسؤول على رأس جهاز جديد اسمه «الضبطية» الذي تحوم حول تاريخ تأسيسه الكثير من التكهنات، ومع هذا الظهور تشكل عالم المخافر والضبطيات. ويمكن القول إنه بحلول الثلاثينيات من القرن التاسع عشر كانت طريقة حفظ الأمن في العاصمة قد تغيرت تغيرا جذريا. فنظام الأمن القديم المعتمد على الأغا والوالي والمحتسب بالتعاون مع مشايخ الحارات ومشايخ الطوائف، حل مكانه نظام مركزي قوامه الضباط.

يلاحظ عبد العظيم فهمي في الجزء الثاني من الكتاب، أن الولي لعب في الخيال الشعبي حائط حماية وشعور بالأمان، فاحتل موقعا مهما بين الإيمان الديني والموروث الشعبي، وهو ما يعرف عند المريدين بالكرامة، التي تعد أهم صفة عند الولي، ومن شروط الولاية. فالكرامة في مفهوم الناس هي القدرة الخارقة للولي، الذي يستطيع أن يحدث بها فرقا حينما يلجؤون إليه، وإذا تحققت تلك الحاجة يعتقد الشخص أنها لم تتحقق، إلا نتيجة لتدخل الولي.. هذا وتتنوع في القاهرة الأضرحة والمقامات تبعا لمرتبة الولي، فهناك المقامات العالية (مقام عالي في المفهوم الشعبي) وأخرى متوسطة وأضرحة صغيرة الحجم مجهولة الهوية، كما أن هناك أولياء محدثين ولهم أتباع، والغالب منهم مشايخ لعشرات الطرق الصوفية. يبقى الأولياء المحليون ذوو التخصصات العلاجية يشكلون أهمية خاصة، وقد أخذوا شهرتهم من الأساطير المفتولة حول قدراتهم العلاجية وتقديم الشفاء للزائرين، فنرى الكثيرين ممن جاءوا من أقاصي الصعيد وبطون الريف صوب الموالد الشهيرة في القاهرة لأصحاب المقامات العالية، كالحسين والسيدة زينب والسيدة نفيسة وزين العابدين، آملين في إيجاد حلول للأمراض المستعصية، التي غالبا ما تكون متعلقة بأمراض المخ والأعصاب والذهان، لذويهم، معبرين بذلك عن وظائف كامنة في قدرة الولي على علاج هذه الأمراض، وأن تمسهم بركات الولي، والغالب من هؤلاء ينتمون إلى الطبقات الكادحة والفقيرة، بالكاد يتحصلون على أقوات يومهم، فما بالك بنفقات العلاج الطبي، ولذلك يلوذون بالموالد عسى أن يأتي الشفاء من الله بشفاعة ذلك الولي.
ما يلفت النظر أيضاً هو أن الكثير من زوايا ومقامات الأولياء أقيمت على حافة الخليج المصري، وهو الخليج الرئيسي في القاهرة، حيث اكتظ العديد من تلك الزوايا في منطقة باب الشعرية، التي كان يمر بها الخليج فمواطن الماء في المدينة لها قدسية في الموروث الشعبي. إذا كان حي باب الشعرية تمتلئ جوانبه بأضرحة ومقامات الأولياء والصالحين، وتكثر فيه حركة المزارات من أبناء الحي والأحياء المجاورة لحضور مولد، أو حلقة ذكر أو دعاء بقضاء حاجة أمام أحد الأضرحة تشفعا بالولي ساكن الضريح، ما يجعل من هذه المدينة مكانا فريداً، حيث نرى العقلاني والرمزي وهما يتنافسان يوميا حول واقع وروح هذه المدينة وتمثيلها والتعبير عن هموم أهلها.
كاتب سوري

Exit mobile version