في قلب العاصمة صنعاء، لم تعد المحاكم منابر للعدالة بل سيوف مسلطة على رقاب المظلومين. تبدأ الحكاية من دموع الطفولة التي سُفكت مرتين؛ مرة حين دُفنت جنات السياغي، ومرة حين حُكم على الطفل مهند السعيدي بالإعدام لأنه دافع عن نفسه من وحش بشري.
مهند.. طفل يحاكم لأنه دافع عن شرفه
في سابقة قانونية صادمة، أصدرت محكمة تابعة لجماعة الحوثي في صنعاء حكمًا يقضي بإعدام الطفل مهند السعيدي، رغم كونه لم يتجاوز مرحلة الطفولة. دافع عن نفسه حين حاول أحد المتنفذين الاعتداء عليه جنسيًا، لكنه وجد نفسه متهمًا لا ضحية، في محاكمةٍ مثّلت انهيار كل ما تبقى من ضميرٍ إنساني. أسرته تروي أن مهند طفل يتيم فقير، لم يملك سوى صراخه حين حاول الدفاع عن جسده الصغير، فحوّلته المليشيا إلى “قاتل” يستحق الحبل بدل الحماية. قال أحد أقاربه: “إنه تهديد صريح لطفولة لا تملك إلا الصمت”.المنظمات الحقوقية وصفت الحكم بأنه جريمة بحد ذاته وانتهاك لاتفاقية حقوق الطفل، فيما اعتبر ناشطون القضية “مرآة قاتمة لقضاءٍ أصبح يحكم بالموت لا بالقانون”.
جنات.. الطفلة التي خذلها القضاء
وفي قضية أخرى هزت الضمير اليمني، أعلنت الشعبة الاستئنافية الجزائية في صنعاء تنحيها عن قضية الطفلة جنات السياغي، التي تعرضت لجريمة اغتصاب بشعة، بعد ضغوط حوثية لتخفيف الحكم على الجاني. القضية التي كانت محجوزة للنطق بالحكم تحولت إلى فضيحة علنية، بعد اعتقال والد الطفلة واعتداء عناصر أمنية عليه بالضرب. كانت المحكمة قد أصدرت حكمًا بالسجن خمسة عشر عامًا للجاني، وهو حكم قوبل برفض شعبي واسع اعتبره إهانة لدم الطفولة اليمنية.
القضاء المختطف.. من ميزان العدل إلى سوط القهر
تحت قبضة الحوثيين، لم يعد القضاء ملاذًا للمظلومين بل ميدانًا للإذلال والابتزاز. أم محمد، التي جلست تبكي أمام المحكمة وهي تحمل أوراق قضية عمرها أربع سنوات، ليست سوى وجه واحد من آلاف الوجوه التي أكلها الظلم. تقول لموقع الوعل اليمني وهي تمسح دموعها: “باعوا حكمي لمن يملك المال”.
القضاة الذين يفترض أن يكونوا ضمير العدالة أصبحوا ينتظرون أوامر “المشرفين” قبل النطق بأي حكم. أحد القضاة المنفيين قال: “نحكم باسم المشرف لا باسم القانون، ومن يعترض يُتهم بالخيانة”.
العدالة على مقاس الجماعة
تروي المحامية نبيلة لموقع الوعل اليمني أن الدفاع عن أي متهم لا يرضى عنه الحوثيون صار مخاطرة بالحياة. “هددوني بالسجن لأنني دافعت عن رجل اتُّهم زورًا بالخيانة”، تقول وهي تبتسم بحزن.
أنشأت الجماعة ما يسمى “وكلاء الشريعة” للسيطرة على المحامين، وحوّلت نقابة القضاء إلى أداة مراقبة، حتى الكلمات في قاعة المحكمة تُفحص قبل أن تُقال.
القانون يُكتب في مكاتب المشرفين
يقول الخبير القانوني أمين عصام إن ما يجري “ليس فسادًا بل قتل متعمد للعدالة”. فالأحكام تُكتب في مكاتب المشرفين لا في قاعات القضاء، والولاء أهم من الدليل. التعديلات التي فرضتها الجماعة على قانون السلطة القضائية عام 2024 كانت بمثابة ربط العدالة برقبة زعيم الجماعة مباشرة.
المال والدم.. توأمان في عدالة الحوثي
تحول ما يسمى بـ“الحارس القضائي” إلى ذراع اقتصادية للنهب المنظم. وفق تقارير منظمات محلية، استولت الجماعة على أكثر من ملياري دولار من أموال الجامعات والمستشفيات والشركات في صنعاء وحدها، بذريعة “الأحكام القضائية”. يقول أحد التجار: “جاؤوا بحكم مزور واستولوا على كل شيء حتى بيت أطفالي”.
منصات الموت بدلاً من العدالة
لم تتوقف المأساة عند نهب الأموال، بل امتدت إلى الأرواح. عشرات المعتقلين أُعدموا بعد محاكمات صورية بلا أدلة، وبعضهم نُفّذ فيهم الحكم أمام الجمهور لبث الرعب في النفوس. المحامون أنفسهم صاروا أهدافًا، بعد أن حاولوا الدفاع عن المظلومين.
العدالة المفقودة.. والضمير الصامت
تؤكد تقارير أممية أن ما يجري في مناطق الحوثيين يمثل انتهاكًا صارخًا لكل معايير العدالة وحقوق الإنسان، إذ تُستخدم المحاكم كأدوات حرب لتصفية المعارضين ونهب الممتلكات. العدالة لم تُقتل في أروقة المحاكم فقط، بل في روح كل يمني يرى طفلاً يُعدم لأنه دافع عن نفسه، وطفلة تُغتصب ثم يُحمى مغتصبها.
في اليمن اليوم، لم يعد القاضي يحكم بالعدل، بل ينفّذ أوامر الحرب. والعدالة التي كانت ترفع رأس المظلومين، صارت تُنفّذ أحكامًا بإعدام البراءة نفسها. ما بين مشنقة مهند، وصمت جنات، وضياع أم محمد، تختصر صنعاء حكاية وطنٍ تُدفن فيه العدالة مع كل قضية تُغلق، ويُحاكم فيه النور لأنه أضاء عتمة الظلم.

موقفه من إسرائيل و”لايك” قديم.. استجوابٌ أميركي حاد لعربي من أصل يمني مرشح سفيرا لترامب بالكويت
مأساة الفاشر.. المدينة المحاصرة التي تختصر أزمة السودان
أطفال غزة.. براءة بين الخيام والأحلام المسروقة
يمنٌ ممزق.. كيف حوّل الحوثيون العائلة إلى ساحة حرب