حفيد مانديلا وأحفاد بلفور: تواريخ المأساة والمهزلة

صبحي حديدي

رفضت السلطات البريطانية إصدار تأشيرة دخول لحفيد نلسون مانديلا، السياسي والبرلماني السابق زويليفيليل ماندلا مانديلا، رغم أن مواطني جنوب أفريقيا عموماً، وحملة جوازات السفر الدبلوماسية خصوصاً، ليسوا بحاجة إلى تأشيرة مسبقة. وبعد أن كانت وزارة الداخلية البريطانية قد أبلغت مانديلا أنه يستطيع الدخول إلى الأراضي البريطانية من دون تأشيرة، تراجعت وأعلمته أنّ حضوره «ليس مواتياً للصالح العام».
وأمّا السبب الفعلي، الذي عفّت السلطات البريطانية عن اقتباسه، فإنه مواقف مانديلا المناصرة للقضية الفلسطينية، والمتضامنة مع أهل غزة ضدّ حرب الإبادة التي تشنها دولة الاحتلال ضدّ المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ في سائر أرجاء القطاع. ولم يكن خافياً أنّ مانديلا كان يعتزم المجيء إلى شيفيلد، للمشاركة في مهرجان تضامني مع فلسطين تعاونت على تنظيمه مجموعة منظمات حقوقية وإنسانية في المملكة المتحدة.
وللوهلة الأولى يبدو هذا القرار البريطاني مألوفاً تماماً، ومنتظَراً خصوصاً من حكومة كير ستارمر؛ الرجل الذي لم يجد أيّ حرج في الإعراب عن تأييده لإجراءات جيش الاحتلال في قطع الماء والغذاء والدواء والمساعدات الإنسانية عن قطاع غزة بذريعة الحقّ الإسرائيلي في الدفاع عن النفس، ولم يعتذر عن تصريحاته تلك أو يسحبها رغم مرور نحو عام على إطلاقها.

غير أنّ حجب تأشيرة الدخول عن مانديلا الحفيد يكتسب بُعداً رمزياً خاصاً إذا استرجع المرء تاريخ التنكيل البريطاني بشخص جدّه نلسون مانديلا، المناضل الكبير والأيقونة الفريدة في الكفاح ضدّ العنصرية ونظام الأبارتيد. ففي نهاية المطاف كانت بريطانيا قوة استعمارية وإمبريالية كبرى استعمرت جنوب أفريقيا وتواطأت على تكريس نظام الفصل العنصري، وظلت حكومة مارغريت ثاتشر ترفض تطبيق العقوبات على حكومة بريتوريا رغم الضغوطات كافة.
البُعد الثاني الرمزي هو أنّ ستارمر أحد أحفاد آرثر جيمس بلفور، صاحب الوعد المشؤوم الأشهر من حكومة صاحب الجلالة إلى اللورد روثشيلد، بتسهيل إقامة وطن قومي لليهود؛ الذين كانوا أقلّ من عُشر عدد سكان فلسطين! كان المشروع استعمارياً بريطانياً، يقترح استيلاد مشروع استعماري استيطاني صهيوني على أرض فلسطين. ولم يبدّل من محتوى الوعد أنّ منظمات صهيونية إرهابية، على شاكلة «أرغون» و«شتيرن»، ردّت مكرمة الانتداب البريطاني على طريقتها: نسف المعسكرات البريطانية في فلسطين، واغتيال الوسيط السويدي الكونت برنادوت، وتفجير فندق الملك داود في القدس على سبيل استهداف قيادة الأركان البريطانية.

حفيدة بلفور الأخرى، رئيسة الحكومة البريطانية الأسبق تيريزا ماي، أحيت الذكرى المئوية للوعد صحبة مجرم الحرب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو؛ متناسية، عن قصد بالطبع، أنّ اثنين من رؤساء حكومات الاحتلال السابقين، مناحيم بيغين وإسحق شامير، كانا على لوائح الإرهابيين المطلوبين من التاج البريطاني: الأول لأنه الآمر بتنفيذ عملية تفجير الفندق إياه، والثاني لأنه خليفة أبراهام شتيرن قائد المنظمة المعتقل لدى البريطانيين بتهمة الإرهاب.

وبين منع حفيد مانديلا من دخول أراضي المملكة المتحدة، وعربدة أحفاد بلفور في التواطؤ على جرائم الحرب الإسرائيلية، من المشروع استعادة مقولة كارل ماركس الشهيرة حول تاريخ يعيد نفسه مرّتين: الأولى على هيئة مأساة، والثانية مهزلة. فالإثم البريطاني الأصلي الذي كان وراء استيلاد وحش الأبارتيد في جنوب أفريقيا، وزرع كيان صهيوني ومخفر استيطاني استعماري عنصري في فلسطين، كان صيغة المأساة؛ التي توجّب أن تُستكمل بالمهزلة، على أيدي أمثال ماي وستارمر والشركاء.

وليست دورة الزمان طويلة بين عشرينيات القرن الماضي، حين تماهت الصهيونية مع الفاشية والنازية والمشاريع الاستعمارية في آن معاً؛ والعقد الثالث من هذا القرن، حين لا تكتفي الديمقراطيات الغربية، حواضن الحروب والاستعمار والعنصرية، بالمصادقة على حرب الإبادة الإسرائيلية، بل تحظر أيضاً أبسط أشكال التضامن مع ضحاياها.

Exit mobile version