في رواية “النحَّال” للكاتب الفرنسي ماكسنس فرمين (Maxence Fermine) نقرأ عن الشاب أورليان، الحالم بالذهب، وعن رحلته إلى أفريقيا في سبيل تحقيق ذلك، والذي كان في البداية قد وجد في تربية النحل وجني العسل في قريته سبيلاً إلى ذلك، فمنذ اليوم الذي حطّت على يده نحلة محملة بغبار الطلع، ورأى مسحوق الذهب على راحة كفه، حَلم بالعسل واختار أن يُصبح نحّالاً. لم يكن أورليان طامعاً بالمال أو الثروة، كما يخبرنا الراوي، لأن جني العسل لم يكن مربحاً كثيراً، لكنه كان يبحث عما أسماه “ذهب الحياة”، والذي وصفه بأنه “مزيج من الحرية والسعادة”.
بدأ النحّال الشاب ينجح في عمله إلى أن يلتهم حريقٌ مزرعةَ النحل التي أقامها، فتتحطم كل آماله، ويظل مكتئباً لأيام إلى أن يصادف رواية في مكتبة جدّه تدور أحداثها في أفريقيا، وتروي مغامرات رجل يبحث عن الذهب، ثم في المنام يحلم بامرأة أفريقية بشرتها عسلية كانت تناديه وتدله على شلالات من العسل. وهكذا يقرر أورليان أن يهاجر بحثاً عن الذهب في الحبشة راكضاً وراء حلمه، ، تاركاً قريته والفتاة التي يحبها، والتي كانت ترى أن حبيبها مثل نحلة عليها أن تطير متنقلة بين الزهور قبل أن تحط على الزهرة المناسبة، وأنها مهما طارت ستعود في النهاية إلى قفيرها.
وهكذا، في عام 1888، غادر أورليان قريته “لانغلاد” في جنوب فرنسا، ومن مرسيليا صعد على متن سفينة متوجهة إلى شاطئ البحر الأحمر، وعبر قناة السويس واصلت السفينة رحلتها حتى وصلت في نوفمبر من نفس العام إلى ميناء عدن.
عدن في عيون الراوي
يصف الراوي على لسان أورليان عدن التي وصلها للتو كالآتي: “عدن هي بركان. فوّهة هائلة على أرض قمرية، متآكلة من ألف شمس، ومشققة مثل قشرة برتقالة، من اللحظة الأولى نختنق فيها، ومن اليوم الأول، نميل إلى الفرار من شظية الصخر هذه التي تسطع مثل جمرة متوهجة، تلتهب تحت قدميك دون أن تنطفئ أبداً”، مضيفاً أن أورليان ما أن وطأت قدماه أرض عدن حتى شعر بنداء السفر والرحيل، وأدرك أنه لن يبقى طويلاً وسط هذا اللهيب، وعندما كان يحدّق إلى صخورها وهي تغرق نحو الجنوب “راودته فكرة وحيدة: أن يعبر البحر الأحمر ويغوص في قلب أفريقيا”([1]).
عند هذه النقطة من الرواية نستطيع أن نستشف ملامح أولية للشبه الكبير بين انطباعات بطل الرواية عن عدن وانطباعات الشاعر الفرنسي “آرثر رامبو” (Arthur Rimbaud) عنها. وهنا يبرز السؤال: هل اقتبس المؤلف روايته التي صدرت أول مرة عام 2000 من قصة حياة رامبو (1854-1891)، خاصة أن أحداث الرواية تدور في نفس الفترة التي وصل رامبو فيها إلى عدن قبل أن يبدأ رحلته إلى الحبشة؟
رامبو والنحّال
وصل رامبو إلى عدن عام 1880، أي قبل 8 سنوات من وصول أورليان “النحّال” إليها حسب ما جاء في الرواية. في رسائله التي كان يبعثها لأهله وصف رامبو عدن بأنها “أضجر مكان في العالم”، مضيفاً: “لا يمكنكم أبداً أن تتصوروا هذا المكان. لا توجد أية شجرة هنا، حتى يابسة، ولا عود قش، ولا قطرة ماء عذبة، ولا ذرّة تراب، فعدن قعر بركان ساكن ومطمور بالرمال البحرية، ولا يمكن أن نرى فيها إلا الصخور البركانية والرمال حيث لا يمكن أن ينمو أي نبات. حول عدن، تمتد صحراء رملية قاحلة تماماً. لكن هنا في عدن، تمنع جدران البركان وصول الهواء إلينا. لهذا، فنحن نشتوي في قعر هذا الجحر، كما لو أننا في فرن جير”، مختتماً بقوله: “إنّ المرء ينبغي أن يكون مجبراً على البحث عن لقمة العيش كي يقبل العمل في مثل هذا الجحيم”.([2])
هذه الانطباعات لا تختلف عن الانطباعات التي ذكرناها سابقاً على لسان النحّال، الذي أيضاً يصف المدينة في يومه الأول فيها بقوله: “عدن صالة لانتظار الموت. فإما أن نعود أدراجنا، أو نعبر البحر الأحمر. البقاء في عدن يعني الموت على نار هادئة.”([3])
والحقيقة أن التشابه بين انطباعات النحّال وانطباعات رامبو عن عدن لم يكن هو الوحيد الذي يدل على حضور رامبو في الرواية، فهما متقاربان في العمر، إذ كان رامبو في السادسة والعشرين من عمره حين وصل عدن بينما أختار المؤلف أن يكون بطل روايته في الثالثة والعشرين، أضف إلى ما كان بينهما من أحلام وقواسم مشتركة كثيرة، منها على سبيل المثال حُب الدفء وعشق السفر، والتوق إلى الذهاب إلى الحبشة ومدينة “هرر”، ثم العودة أخيراً إلى فرنسا بعد رحلة من العناء محملين بالكثير من المغامرات وخيبات الأمل والقليل من المال.
كان رامبو معروفاً بحبه للسفر، وكان يردد دائماً عبارته الشهيرة: “الحياةُ دائماً في المكان نفسه أمرٌ بائس جداً”، كما كان يعشق الدفء ويطارد الشمس الذهبية التي لم يجدها في فرنسا، فهو يقول في احدى قصائده: “وجدتها! ماهي؟ الأبدية، إنها البحرُ مختلطاً بالشمس”([4]).
في المقابل نجد أن مؤلف الرواية معروفٌ هو أيضاً بعشقه للسفر وقيامه برحلات عديدة إلى أفريقيا والشرق الأقصى، كما أن حب الشمس والدفء تم تكراره على لسان النحّال في أكثر من موضع في الرواية، فمثلاً نقرأ: “كان [أورليان] يترك آثاره في مياه فرنسا الزرقاء والهادئة، قاصداً البحر الأحمر، وهو يدرك أنه يجتاز بوابة الشرق ويدخل رويداً رويداً في دفء العالم”([5]).
وكما ذهب أورليان “النحّال” إلى الحبشة باحثاً عن الذهب والعسل، ذهب رامبو إلى هناك بحثاً عن ثروة يجنيها من تجارة البن والأسلحة بعد أن كان قد ترك كتابة الشعر نهائياً وهو ما يزال في العشرين من عمره. وإذا كان أورليان لم يعد من رحلته الأفريقية بتلك المرأة؛ ملكة إحدى القبائل التي كان قد رآها في الحلم والتي عاشرته ليوم واحد قبل أن تتركه وتختفي، فإن رامبو كان قد عاد من الحبشة مع امرأة حبشية عاش معها في عدن لسنوات قبل أن يطردها بدم بارد إلى الحبشة مرة أخرى([6])، ويغادر إلى مرسيليا. هناك في احدى المستشفيات يتم بتر ساقه بسبب ورم، ثم لا يلبث أن يموت بعدها بأيام، وبالتحديد في 10 نوفمبر 1891، وهو ما يزال في السابعة والثلاثين من العمر. أما أورليان، بطل روايتنا، فقد عاد من رحلته الأفريقية إلى فرنسا، وأصيب أيضاً بالمرض وكاد أن يموت في احدى مستشفيات مرسيليا، لكنه على عكس رامبو تعافى وعاد إلى قريته.
رامبو في الرواية
لم يكتفِ مؤلف الرواية باقتباس حياة رامبو كمادة أساسية لروايته، بل إنه أظهره فعلاً في إحدى شخصيات الرواية، وهي شخصية “الإفرنجي” الذي كان قد رافق النحّال في طريقه من مدينة “هرر” إلى “أنكوبير”، والذي تبادل مع النحّال بعض الحوارات التي كانت تدل على سعة ثقافته، فعندما سأله النحّال “ماذا كنت تعمل في فرنسا؟” أجابه الإفرنجي: “كنتُ أضجر”، قبل أن يضيف: “لكنني اليوم أكثر ضجراً. إني ملعون. أتمنى أن أعود إلى بلدي وأتزوج. ولكن، بلا مال من سيقبل بي؟”([7]). وهو الوصف الذي اقتبسه المؤلف من وصف الشاعر الفرنسي بول فيرلين (Paul Verlaine) عن صديقه رامبو، الذي كان قد ربطته به علاقة حميمية في عمر المراهقة([8])، إذ يقول “إنه شاعرٌ ملعون. واحد من الشعراء الملعونين؛ لكن الغريب في أمره أنه هو الذي يلعن نفسه ولا ينتظر الأمر من الآخرين”([9]). ولكي تتضح الصورة أكثر ها نحن نجد مؤلف الرواية ينهي حياة “الإفرنجي” في إحدى مستشفيات مرسيليا بعد أن بُترت ساقه، وبعد أن أهدى للنحّال ديوان شعر مكتوباً بخط يده، وظلَّ صامتاً عندما يسأله النحّال “هل عرفت السعادة؟”([10]).
كراهية السكان المحليين
الشيء الملاحظ الآخر هو أن انطباعات الراوي عن السكان المحليين لم تكن بعيدة كثيراً عن انطباعات رامبو وعلاقته السيئة بهم، بل إن الأمر لا يخلو من لمحة من العنصرية التي ربما اتسمت بها بعض كتابات عدد من الفرنسيين الذي كتبوا عن عدن في تلك الفترة أمثال الرحالة والأديب الفرنسي جوزيف دي غوبينو الذي، كما يشير د. مسعود عمشوش، رسم صورة سيئة لعدن أراد توظيفها “للبرهنة على صحة ما ذهب إليه من أطروحات حول تفاوت الأجناس البشرية، وهي أطروحات عنصرية في المقام الأول، وبعيدة عن الدقة والموضوعية العلمية، ولا تستند في الغالب إلا إلى المنطلقات الاستعمارية والعنصرية للمؤلف”([11]).
يصف الراوي السكان المحليين بنوع من الاشمئزاز حين يصل النحّال إلى عدن، ويصادف مجموعة من الرجال على المرفأ ويسألهم أن يرشدوه على أول قافلة تغادر عدن إلى “هرر”. حينها تتعالى ضحكات الرجال، وكان أحدهم بلا أسنان، بلثة خضراء متآكلة بالعفونة، قام ببصق لعاب أسود على الأرض([12]). في موضع آخر من الرواية يتحدث الراوي عن تاجر فرنسي غني يملك أجمل بيت في عدن، وكيف أن هذا التاجر كان “يكره النساء والسكان الأصليين”، كما نقرأ كيف أن اليمني، قائد القافلة التي ستأخذ النحّال إلى مدينة “هرر”، كان يرتجف “من رأسه حتى قدمية” أمام هذا التاجر الفرنسي الذي لم يقبل أن يدفع ما عليه لليمني من نقود إلا بعد أن تدخل النحّال وتوسط بينهما في حبكة درامية لم تكن مقنعة.
والحق أن قارئ هذه الرواية لا يمكن إلا أن يتأكد من هذه النظرة الفوقية التي تبناها الراوي (والمؤلف) في كل ما كان يتعلق بالسكان المحليين من اليمنيين، ففي رحلة القافلة في صحراء الصومال مات أحد اليمنيين متأثراً بجروحه بعد أن هاجمه قط وحشي، ومات الآخر بالزحار، وآخرين مذبوحين على يد قبيلة الدناكل، وآخر بالملاريا، وهكذا. أما النحّال، هذا الشاب القادم من فرنسا الذي لم يعرف الصحراء من قبل، فيصل سليماً معافى إلى “هرر” برفقة قائد القافلة اليمني بعد أن نجيا بأعجوبة من الموت عطشاً؛ لكن هذا القائد اليمني ما يلبث حاكم “هرر” أن يطرده من المدينة بعد مصادرة بضاعته بحجة المتاجرة غير المشروعة، بينما أبقى على النحّال ليصبح صديقاً له، بل ويعطيه الهدايا دون سببٍ مقنع حقاً.
أما بالنسبة لرامبو فالأمر لا يختلف كثيراً في ما يخص علاقته بالسكان المحليين في عدن، فقد كان قليل الاختلاط بهم وكان يتشاجر معهم أيضاً، ولم يترك انطباعاً ايجابياً عنهم في كل ما كتبه من رسائل خلال تلك الفترة، فقد كانت علاقته بعدن وأهلها علاقة تتسم “بحالة من الالتباس والتناقض”، حسب رأي حسن عبد الوارث، الذي برر هذا الرأي بقوله: “فالرجل الذي أدمن هجاء هذه المدينة والسخط على كل ما فيها، أدمن أهلها حبه ومدحه والتفاخر به”، مستغرباً كيف أن شاعراً بذلك القدر الوافر من الموهبة والنبوغ يكتفي في مراسلاته “بتلك الملاحظات الساذجة والسطحية”([13]).
رواية مخيبة للآمال
مما سبق الإشارة إليه ليس لدينا شك أن مؤلف الرواية استلهم حياة الشاعر آرثر رامبو، وجعلها مادة أساسية لروايته “النحّال، بل وجعل رامبو يظهر أيضاً في احدى شخصياتها؛ دون أن يشير إلى ذلك. لكن ماذا عن الرواية نفسها؟
الحقيقة أنه بعيداً عن بريق عنوانها وصفحاتها الأولى الشيقة نوعاً ما فالرواية ضعيفة في مجملها، فمعظم الحوارات التي نقرأها بين النحّال ومختلف الشخصيات، سواء في قريته في فرنسا أم خلال رحلته إلى أفريقيا، عادة ما كانت تبدو تائهة وضائعة، كما أن الكثير من الأحداث والمواقف لم تكن مقنعة ولا مترابطة، ولم يهتم المؤلف بتسويق مبررات منطقية لها بقدر اهتمامه بسرد بعض المقولات الفلسفية والشاعرية على لسان البطل؛ والتي أيضاً جاءت دخيلة وغير منسجمة مع السرد نفسه. في المحصلة النهائية يمكننا القول إنها رواية مخيبة للآمال لكاتب معروف ربما لم تكن تستحق أن تترجم إلى العربية لولا أنها أظهرت لنا المزيد عن علاقة رامبو بمدينة عدن وسكانها وانطباعاته السيئة عنها وازدرائه لأهلها، ومفارقة احتفاء اليمنيين به دائماً.
[1] رواية النحّال، ماكسنس فرمين، النسخة العربية، ترجمة أيف كادوري وحازم عبيدو، دار المدى، 2016، ص 53.
[2] د. مسعود عمشوش، “عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين”، إصدارات جامعة عدن، 2003.
[3] رواية النحّال، ص 55.
[4] من ديوان “فصل في الجحيم” لآرثر رامبو، ترجمة رمسيس يونان، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، 2006.
[5] رواية النحّال، ص 51.
[6] د. مسعود عمشوش، “حياة رامبو في عدن”، مدونة مسعود عمشوش، 11 إبريل 2011.
[7] رواية النحّال، ص 81.
[8] وهي العلاقة التي يحكيها الفيلم السينمائي “كسوف كلي” (Total Eclipse) من بطولة ليوناردو دي كابريو (قام بدور رامبو) وديفيد ثوليس (قام بدور فيرلبن)، والذي تم إنتاجه عام 1995.
[9] كوليت مرشليان، “رامبو في الذكرى المئة والخمسين لولادته”، صحيفة المستقبل، 14 سبتمبر 2004.
[10] رواية النحّال، ص 111.
[11] د. مسعود عمشوش، “عدن في كتابات الرحالة الفرنسيين”، مرجع سابق.
[12] رواية النحّال، ص 53.
[13] حسن عبد الوارث، “رامبو… طفل شكسبير المعذب في عدن”، ملحق الخليج الثقافي، 10 يوليو 2017.
*موقع المدنية