“عالم هائل”.. كتاب يكشف فيه مؤلفه عن “شعوب أخرى” تشاركنا السيطرة على الأرض

 كثيرون لا يعرفون أنه بإمكان عدد كبير من أنواع الأسماك توليد الكهرباء، وأن الكلاب تستطيع أن تميّز الألوان الزرقاء والصفراء والرمادية، وأن بعض الحشرات الضئيلة جداً تُطرب النباتات بلحن جميل، ويملك سمك “السلور” براعم تَذوّق، في حين أن فئران الكنغر لها آذان أكبر من أدمغتها.

هذا جزء بسيط جداً مما يقترحه علينا هذا السِفر العجيب، كتاب “عالم هائل” للصحفي العلمي البريطاني إيد يونغ، المكتوب بأسلوب سلس وممتع، يُظهر لنا كيف تختبر الحيوانات محيطها، فهي تمتلك عالماً حسّياً فريداً، بعيداً عما ندركه نحن بني الإنسان، بل نَجهل بأنها تحقّق به تواصلها مع المحيط، بشكل يتعدّى ما نعرفه حتى اليوم. 

من يسيطر فعلاً على الأرض؟

يبرهن يونغ في كتابه هذا الأكثر مبيعاً، بحسب صحيفة “نيويورك تايمز”، وذلك في 482 صفحة (منشورات ليليان كي ليبير Les liens qui libèrent)، أن الإنسان لا يسيطر كما يعتقد على الأرض، أو ليس بالكامل، ما دامت الحيوانات تشاركه في ذلك أيضاً، بل بشكل أكثر فعالية، بواسطة حواسها الخفية، لسبب بسيط ومهم في الوقت نفسه، وهو أن  إدراكنا نحن البشر، مثل إدراك أي حيوان، محدود. 

حين يبوح بذلك، فانطلاقاً من دراية واسعة بالموضوع، لأنه بحكم تكوينه العلمي، يكتب في صحف شهيرة ومجلات علمية متخصّصة (نيو ساينتست، ذا تايمز، الجارديان، نيتشر، ديلي تلغراف، إيكونوميست)، فضلاً عن تحريره مدوّنة ذات متابعة شعبية واسعة، تسهم في تقريب عالم العلم إلى الناس. وسبق له أن حاز جائزة “بوليتزر” عن تقرير يتناول فيروس كورونا. 

يقول الكاتب: “الحيوانات ليسوا إخوة لنا ولا أقلّ شأناً منّا. هم شعوب أخرى، عالقون مثلنا وبرفقتنا في شبكة الحياة والزمن نفسها”. 

وكي يتوصّل إلى مراده بتأكيد هذا الأمر، اعتمد أولاً على مفهوم بيولوجي علمي مهمّ جداً هو “Umwelt”، مأخوذ من اجتهاد العالِم الإحيائي الألماني جاكوب فون أوكسكول (1909)، ويقصد به “البيئة الحسّية الشعورية” الخاصّة بكل نوع من الأنواع الحيّة، إذ يضع الباحث نفسه موضع هذه الأخيرة، للتعرّف عليها من الداخل.

 يقول الكاتب في حوار مع مجلة “ماريان” الفرنسية (15 نوفمبر 2023): “البيئة الحسّية تعني المشاهد والروائح والأنسجة والأصوات والمُحفّزات الأخرى التي يمكننا إدراكها، لأن البيئة البشرية لدينا تختلف جذرياً عن تلك الموجودة لدى الحيوانات الأخرى”.

يشرح الكاتب كيف يمكن للدلفين الذي يحدّد موقع الإنسان في الماء بالصدى، أن يرى ليس فقط الشكل الخارجي للإنسان، ولكن أيضاً ما بداخله، بما في ذلك الهيكل العظمي والرئتين.

كما يمكن لأجنّة ضفادع الأشجار – المختبئة داخل بيضها غير المفقّس – اكتشاف اهتزازات المفترس المهاجم، وإطلاق إنزيم من وجوهها، يذيب الأغلفة التي تؤويها، ما يسمح لها بالخروج والهروب.

الليل والبشر

عندما يتعلق الأمر بالبصر، هناك مفاضلة بين الحساسية والدقّة بحسب الكاتب، “إذ يميل البشر إلى التمتّع بحدّة بصرية غير عادية خلال النهار، لكنهم يواجهون صعوبة أكبر في الرؤية بالليل، في حين أن الحيوانات التي تتمتّع برؤية ليلية أفضل، لا تسجّل الصور الواضحة على مسافة بعيدة مثلنا”.

 اعتمد يونغ على اللقاء بالعلماء المختصّين في علم الحيوان وعلم الحواس، مع تتبّع ومشاهدة ما يتحدث عنه عيانياً. ويعلّل قصر الإدراك لدى الإنسان بالقول: “لا يمكننا تَلمّس المجالات المغناطيسية أو الكهربائية، ولا يمكننا رؤية الأشعة فوق البنفسجية، ولا يمكننا سماع تعقيدات أغاني الطيور، ما يشير إلى وجود المجهول في المألوف، والسحري في الدنيوي، والاستثنائي في العادي”. 

أعماق الحواس 

هكذا يقودنا الكتاب إلى إعادة التفكير تماماً بالطريقة التي نفهم بها عالم الحيوان، عبر عرض دقيق وتفصيلي ومعزّز بالوثائق بشكل كبير، يدحض الكثير من المعتقدات المتخيّلة في المجتمعات حول الحيوانات.

 فالأصل علمي خالص، يتعلق بمسألة سلوك حيواني بحسب حواس عدّة لدى كل نوع من الحيوانات، التي تطرّق إليها يونغ، وعددها 100 حيوان. ويفسّر ذلك بأن السر يكمن في تلاحم وتداخل كل حاسّة معيّنة بالحواس الأخرى، من خلال ما أطلق عليه اسم “الحسّ المُواكب”. 

تدعونا قراءة الكتاب إلى تَصوّر هذه التركيبات الحسّية العجيبة والمدهشة، ومحاولة التناغم الذاتي مع المحيط والحيوانات القريبة منا والبعيدة، أو حتى المجهولة تماماً.

“الحس المواكب” برأي الكاتب، يعني كلّ حاسة تؤدي وظيفتها الإدراكية الأولى التي وُجدت من أجلها في البداية، في منطقة ما من الجسم، كاستشعار واستشارة، ثم تلتقي مع الحواس الأخرى للوصول إلى إدراك أوسع وأدقّ وأشمل. 

يحدث هذا بشكل طبيعي، لكن العجيب أن ما يحدث يتّصف بالتزامن والتكامل. هو إذن استخدام حواس عدّة في وقت واحد، إذ يتمّ تجميع المعلومات من حواس مختلفة، وتحليلها لتحسين معرفتها بالعالم. 

4 ثنائيات من العيون

لنأخذ نموذجاً العناكب القافزة التي تمتلك “أربع ثنائيات” من العيون، عينان في المقدّمة، وعينان في الجانب والخلف! تلك التي في الوسط أكبر وأكثر استدارة من العيون الأخرى، إلّا أن مجال رؤيتها محدود للغاية، وبالتالي فهي تحتاج إلى العيون الثانوية التي تعوّض هذا النقص بإدراك الحركة، كي توجّه نظرها نحو الجهة الصحيحة التي تنظر إليها.. 

كما يمتلك “الأسقلوب” أو المحار المِروحي، اللذيذ عند طبخه، على 100 عين مصفوفة حول حواف أغطيتها، كسلسلة من العقيق. وهي أعين عاكسة، لها قُطر يبلغ قرابة الملليمتر واحد، وتحتوي على نوعين من الشبكيات، واحدة تستجيب للضوء، والأخرى تستجيب للظلام المفاجئ، الذي تحدثه الظلال على سبيل المثال.

يعدّ الأخطبوط مثالاً بارزا لهذا الاتّساق الشعوري بواسطة الحواس، بسبب قدرته على توظيف الحواس المتعددة بطريقة متوازنة ومُتحالفة، بفضل الأذرع التي تحتوي على حاسّتين مُكَلّفتين بالذوق واللمس، ما يسمح لهما بتحديد موقع الأشياء، والدماغ المركزي الذي يعمل على تحقيق التزامن في حركات الأذرع عند الضرورة.  

اكتشافات مذهلة

هي أمثلة ضمن أخرى تم تفصيلها في 13 فصلاً، تسرد مغامرات البحث والتجريب لعدد من العلماء ما بين جدران المختبرات البيضاء، وشساعة الطبيعة الحيّة على اليابسة، وفي الجوّ وفي أعماق البحار. 

وتتناول خاصّيات حواس البصر والسمع، الذوق والشم واللمس. فالشَمّ يزوّد الحيوانات بمعلومات عن بيئتها، بما في ذلك وجود حيوانات أخرى، وهويتها، وحالتها لدى الإخصاب، كما هو حال الفراشات، ويلعب التذوّق لدى الثعابين والحشرات والطيور دوراً كبيراً في اختيارها للأطعمة. لكن هذا يبقى في حكم المتوقّع إلى حدّ ما.

 أما الجديد الذي أتى به هؤلاء العلماء، فيتعلق بإنتاج الكهرباء لدى بعض الأسماك، وهو ما مكّن من إحداث ثورة في تطوير البطاريات، وتحمّل درجات الحرارة في حدود قصوى، والألم والتواصل والهجرة الطويلة باستخدام المجال المغناطيسي للأرض، والعيش في الظلام الدامس والاهتزازات، وما إلى ذلك من اكتشافات غريبة ومذهلة. 

يرى الكاتب أن القدرات الاستثنائية للقوائم والشوارب والفراء والريش والزعانف، وغيرها من الأعضاء الرئيسية والزوائد، تجعلنا ندرك كيفية تنقّل هذه الحيوانات بمهارة في بيئتها، وتغذيتها ودفاعها عن نفسها، والتواصل مع من حولها. “حواسهم استثنائية فعلاً، تتجاوز توقعاتنا الأكثر مبالغة من حيث التعقيد والجودة”.

كتب إيد يونغ صفحات تُظهر وتُخبر بقدر ما تثري المعرفة العلمية، التي يحرص على أن تكون قاعدته الحقيقية الوحيدة، وهي الانطلاق من الدراسات البحثية الأصلية دائماً، وليس من البيانات الصحفية.

 يقول في مدوّنته: “إذا لم أتمكن من فهم العمل بنفسي، فلست مهتماً بمحاولة شرحه لأشخاص آخرين”. وهكذا يتحلى كتابه بصدق يعلن عنه أسلوب في الكتابة، الذي يمنح متعة الاكتشاف عن طريق القراءة، كأنما تتم مشاهدة هذا العالم الفريد المتخفّي بَصرياً. 

يبقى القول بأن فكرة “عالم هائل” جاءت من زوجته، العاشقة مثله لعالم الحيوانات وجماليات الطبيعة. يقول: “كانت الفكرة هديتها لي، وكان الكتاب هديتي لها”.

الشرق

Exit mobile version