غرام الهندوسية بالصهيونية.. كيف نفهم تحالف الهند مع إسرائيل؟

شادي إبراهيم

خلال الأسابيع الأولى للحرب الإسرائيلية الحالية على غزة، ووسط زحام المعارك وصخب الانفجارات وجرائم الإبادة الجماعية، وبينما كان الآلاف يفرّون أو يخططون للفرار من إسرائيل سعيا للنجاة، كان هناك مشهد مغاير تماما يدور على بُعد أكثر من 4 آلاف كيلومتر من الأراضي الفلسطينية المحتلة، تحديدا في العاصمة الهندية نيودلهي، حيث احتشدت “طوابير” من الهنود أمام السفارة الإسرائيلية لتقديم طلبات للحصول على تأشيرات إسرائيلية، من أجل الانضمام إلى صفوف جيش الاحتلال والمشاركة في حربه على قطاع غزة.

على الأغلب، نجح المئات من هؤلاء المتطوعين الهنود في الوصول إلى إسرائيل، وشارك بعضهم بالفعل ضمن صفوف الجيش الإسرائيلي في الحرب، بل وربما سقط بعضهم ضمن القتلى والمصابين. وفقا لتقرير صادر لصحيفة “إنديا توداي”، كان ما لا يقل عن 400 هندي يقاتلون على الخطوط الأمامية مع الجيش الإسرائيلي خلال الأسابيع الأولى للحرب، وهم خليط بين المتطوعين الجدد وبين المستوطنين ذوي الأصول الهندية الذين استُدعوا للخدمة من صفوف قوات الاحتياط.

متجمهرون في الهند يعبرون عن دعمهم لإسرائيل عقب أحداث السابع من أكتوبر (أسوشيتد برس)

ينتمي معظم هؤلاء الهنود ذوي الهوى الصهيوني إلى قبيلة بعينها تُعرف باسم “بني منشيه”، وهي أحد المجتمعات القاطنة في شمال شرق الهند، تحديدا في ولايتَيْ ميزورام ومانيبور.

ويزعم أفراد هذه الجماعة أن جذورهم تمتد إلى إحدى قبائل إسرائيل العشر المفقودة، التي نفتها الإمبراطورية الآشورية قبل أكثر من 2700 عام، وأن تراثها اليهودي يرتبط بالأراضي الفلسطينية المحتلة. ونتيجة لذلك، وعلى مر السنوات الماضية، هاجر نحو 5 آلاف من أفراد جماعة بني منشيه إلى إسرائيل، وهناك عدد مماثل ينتظر فرصة الهجرة إليها.

سهَّل قانون العودة الذي أصدرته الحكومة الإسرائيلية هذه الهجرات، وذلك بفضل التعديل الصادر عام 1970 الذي يسمح لمَن يُعرفون بأنهم من “بذور إسرائيل” (Seeds Of Israel) بالهجرة والحصول على الجنسية الإسرائيلية. وتشير لفظة “بذور إسرائيل” إلى كل مَن يثبت بالدليل اتصال نسبهم بأجداد يهود حتى إذا كان ذلك منذ أجيال بعيدة، وحتى لو لم يكونوا يهودا بالاصطلاح “الشرعي”.

وبموجب فتوى مزعومة أثارت الكثير من الجدل حول صحة نسبتها للحاخام الأكبر السابق لليهود الشرقيين (السفارديم) شلومو عمار صدرت عام 2005 واعتبرت بني منشيه من “بذور إسرائيل”، سمحت حكومة نتنياهو منذ عام 2012 لأبناء القبيلة الهندية بالهجرة إلى فلسطين والتحول إلى الديانة اليهودية فور وصولهم، وذلك بعد تعثر مشروع هجرتهم وتوطينهم في عهد أرييل شارون.

لكن علاقة التعاطف والمحاباة بين إسرائيل والهند تتجاوز قضية “بني منشيه”. وقد عبَّر عن ذلك السفير الإسرائيلي السابق في الهند، ناور جيلون، قائلا إن مشهد “طوابير” الهنود المصطفين أمام السفارة الإسرائيلية في نيودلهي هو جزء فقط من مشهد الدعم الذي يلمسه بين الهنود العاديين وفي صفحات التواصل الاجتماعي الخاصة بالسفارة، زاعما أن بإمكانه “حشد جيش آخر من المتطوعين للقتال من أجل إسرائيل”.

غير أن المشهد لم يكن على هذا النحو دائما، فثمة تحولات كبرى وقعت خلال العقود الماضية أعادت معها الهند تموقعها لتصبح اليوم أحد أهم حلفاء دولة الاحتلال الإسرائيلي حول العالم.

سياق | لماذا تدعم الهند إسرائيل؟

عدم الانحياز:
خلال العقود الأولى للصراع، كانت مواقف الهند الدبلوماسية مناصرة بوضوح للقضية الفلسطينية، حيث صوَّتت ضد قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في 29 نوفمبر/تشرين الثاني 1947، وصوَّتت مرة أخرى ضد قبول عضوية إسرائيل في الأمم المتحدة في 11 مايو/أيار 1949 بجانب بعض الدول الأخرى مثل أفغانستان وباكستان وبورما وإيران وإثيوبيا، بالإضافة إلى ست دول عربية هي مصر والمملكة العربية السعودية والعراق ولبنان وسوريا واليمن (رغم أن الهند اعترفت بإسرائيل لاحقا في سبتمبر/أيلول 1950 لكن دون إقامة علاقات دبلوماسية رسمية).

وفي تلك الفترة، أعلن موتيلال سيتالفاد، كبير مندوبي الهند في المنظمة الدولية، والمدعي العام للبلاد لاحقا، رفض حكومته الاعتراف بإسرائيل، وذلك بسبب الطريقة التي تأسست بها الدولة العبرية، عبر استخدام القوة وليس من خلال عملية تفاوض وتوافق.

يعود موقف نيودلهي المناهض لإسرائيل على مدى أربعة عقود تقريبا إلى موقعها بوصفها عضوا مؤسسا في حركة عدم الانحياز (NAM)، التي دعمت النضالات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم. وامتدادا لهذا الموقف أقامت الهند علاقات مع منظمة التحرير الفلسطينية في يناير/كانون الثاني عام 1975، وافتتحت مكتبا لها في نيودلهي. وفي مارس/آذار 1980، منحت رئيسة الوزراء إنديرا غاندي الاعتراف الدبلوماسي الكامل للمنظمة بوصفها ممثلا للشعب الفلسطيني، وسمحت لها بترقية مكتبها إلى سفارة كاملة.

لم يكن مفاجئا إذن أن كانت الهند من بين أوائل الدول غير العربية التي اعترفت بدولة فلسطين في نوفمبر/تشرين الثاني عام 1988.

ومع ذلك، ينبغي وضع الصراع القائم بين الهند وباكستان ضمن الصورة الكلية للمناصرة الهندية للقضية الفلسطينية، حيث كانت نيودلهي تسعى لمواجهة نفوذ باكستان في العالم العربي، وحماية إمداداتها النفطية من الدول العربية، خاصة بعد أزمة النفط خلال حرب أكتوبر عام 1973. كما كانت تهتم بعدم فقدان التدفق النقدي الأجنبي الذي توفره جحافل الهنود العاملين في دول الخليج العربي.

وبالإضافة إلى ذلك، كانت البلاد تخشى من أن الاعتراف الرسمي بإسرائيل قد يؤدي إلى استياء عدد كبير من سكانها المسلمين، وإثارة توترات داخلية لا داعي لها.

خريطة لسريلانكا وتظهر الدول باكستان والهند وبنغلاديش وإيران والصين

تحولات تحت المياه:
لكن هذا المشهد الداعم للفلسطينيين كان يُخفي تحته تحولات جمة كانت تختمر تحت مياه السياسة الهندية. بدأت هذه التحولات بالسقوط المدوي لإنديرا غاندي وحزب المؤتمر الوطني في انتخابات عام 1977، وقدوم حكومة جديدة بقيادة حزب “جاناتا” حوت عناصر قومية هندوسية في صفوفها. وقد رأت الحكومة الجديدة أن الاصطفاف مع إسرائيل يمكن أن يخدم بشكل أفضل سياساتها المناهضة لباكستان، فأقدمت على استضافة وزير الدفاع الإسرائيلي موشيه دايان سرا في دلهي.

خلال الأعوام التالية، أقامت الهند وإسرائيل علاقات عسكرية سرية واسعة النطاق على قاعدة العداء المشترك لباكستان التي كانت ملتزمة علنا بمساعدة الدول العربية ضد تل أبيب. وقد تحدثت الكثير من المصادر عن وجود خطة هندية-إسرائيلية لشن ضربة استباقية ضد المنشآت النووية الباكستانية في الثمانينيات، وخاصة منشأة تخصيب اليورانيوم ومركز الأبحاث في كاهوتا، مستوحاة من الهجوم الإسرائيلي على المفاعل النووي العراقي عام 1981.

وفي أعقاب اغتيال أنديرا غاندي عام 1984 -بعد عودتها للسلطة مجددا- قرر نجلها وخليفتها راجيف غاندي لقاء نظيره الإسرائيلي شيمون بيريز لأول مرة على هامش اجتماعات الأمم المتحدة. وتسارعت منذ ذلك الحين سياسات التطبيع الهندي الإسرائيلي، مدفوعة في المقام الأول برغبة نيودلهي في التقارب مع الولايات المتحدة والحصول على الأسلحة الأميركية، هو ما أثمر في النهاية إقامة علاقات دبلوماسية كاملة بين الهند وإسرائيل عام 1992 في عهد رئيس الوزراء “ناراسيمها راو”.

بحلول نهاية التسعينيات، كانت إسرائيل قد تحولت إلى شريك رئيسي للهند في المجال العسكري، شراكة دفعتها عدة عوامل، على رأسها الحظر الأميركي المؤقت للتعاون العسكري مع الهند بسبب تجاربها النووية، وحرب كارجيل ضد باكستان عام 1999 التي كشفت العديد من مكامن الضعف لدى القوات المسلحة الهندية. وقتها، لم يجد القوميون الهندوس العائدون إلى السلطة، ممثلين في حزب “بهاراتيا جاناتا”، بُدًّا من مصافحة يد إسرائيل الممدودة إليهم منذ عقود.

دعمت إسرائيل الهند خلال حرب كارجيل، وقدمت لها العديد من المعدات العسكرية الحيوية، كقذائف الهاون والذخيرة والصواريخ الموجهة. لكن تلك العلاقات العسكرية، السرية منها والعلنية، كان عليها أن تنتظر حتى العقد الأول من الألفية حتى تتبلور في إطار دبلوماسي، وهو ما حدث عبر زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي أرييل شارون إلى الهند في سبتمبر/أيلول 2003، التي عُدّت نقلة نوعية وعلامة بارزة في تاريخ العلاقات الهندية الإسرائيلية.

وقد رافق شارون حينها وفد كبير من 150 عضوا، أغلبهم من العاملين في الصناعات الدفاعية، وشهدت تلك الزيارة توقيع 6 اتفاقيات، بما في ذلك بيع ثلاثة أنظمة إنذار وتحكم جوي من طراز “فالكون” للهند، مما أدى إلى إثارة قلق كبير في باكستان وحتى بين المسلمين الهنود.

تجسَّد هذا القلق في صورة احتجاجات في الهند ضد الزيارة، خصوصا بين المسلمين الذين رأوا فيها بوادر صعود محور صهيوني هندوسي مناهض للإسلام، وعُدَّت الزيارة آنذاك بمنزلة تأكيد تحول سياسة الهند الخارجية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والتوجه نحو التقارب مع إسرائيل، ما أثار انتقادات واسعة وشكوكا بشأن الالتزام الهندي بمبادئ عدم الانحياز.

وحتى مع عودة حزب المؤتمر للسلطة للمرة الأخيرة، بدا واضحا أن زمان السياسات العروبية للهند ولَّى إلى غير رجعة، وأن العلاقات مع إسرائيل أصبحت إحدى المسلّمات الراسخة للسياسة الهندية.

مودي ونتنياهو.. زمان التحالف:
تأكدت هذه الحقيقة مع عودة حزب “بهاراتيا جاناتا” (BJP) إلى السلطة عام 2014، هذه المرة بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي، حاكم ولايات غوجارات السابق، والمعروف بميوله القومية الهندوسية المتطرفة. شرع مودي مبكرا في تعزيز علاقات بلاده الأمنية والعسكرية مع إسرائيل، متوِّجا هذه المساعي بزيارة تاريخية لدولة الاحتلال عام 2017 أرست أُسسا قوية لشراكة إستراتيجية في مجالات متعددة.

خلال هذه الزيارة، وقَّع الطرفان سبع اتفاقيات تعاون في مجالات مختلفة تشمل الدفاع والأمن، والتكنولوجيا، والطاقة، والزراعة، كما اتفقا على إنشاء صندوق ابتكار بقيمة 40 مليون دولار لتعزيز التعاون في مجال التكنولوجيا وتحفيز الابتكار والتطوير المشترك. والأهم أن إسرائيل والهند أكدتا خلال الزيارة التزامهما بمحاربة التهديدات المشتركة لما تصفانها بـ”الجماعات الإرهابية” جزءا من شراكتهما الإستراتيجية. وفي العام التالي مباشرة، زار نتنياهو الهند برفقة ممثلين عن الشركات الدفاعية الإسرائيلية ورجال الأعمال بُغية توسيع نطاق التعاون في مجالات الدفاع والأمن، والاقتصاد، والتكنولوجيا.

ظهرت ثمار هذا التحالف الهندي الإسرائيلي في المواقف المناصرة للاحتلال الإسرائيلي التي اتخذتها حكومة مودي في كل المناسبات منذ صعودها تقريبا، وآخرها خلال عملية طوفان الأقصى، حيث أدان رئيس الوزراء الهندي حركات المقاومة الفلسطينية، وأعرب عن تضامنه الكامل مع إسرائيل في مواجهة “التحديات الأمنية”. لكن بعيدا عن الغزل الخطابي ومنافع التعاون العسكري التاريخي، خدمت العلاقات مع إسرائيل مصالح القوميين الهندوس من الناحية البراغماتية البحتة، وعلى رأسها تعميق التحالف مع الولايات المتحدة الذي كان بمنزلة طلاق رسمي لسياسة عدم الانحياز.

مودي (يمين) ونتنياهو يرتبطان بصداقة وثيقة تغذيها التوجهات الأيديولوجية (رويترز)

تعاونت نيودلهي وواشنطن ضمن مجموعات متعددة الأطراف مثل “الرباعية” (The Quad)، ومجموعة “آي تو يو تو” (I2U2 Group)، وارتبطتا معا بالعديد من الاتفاقيات العسكرية والإستراتيجية، التي خدمت مصالحهما المشتركة وفي مقدمتها احتواء الصين وتقويض نفوذها في مناطق في جنوب وجنوب شرق آسيا، التي تُعد فضاء إقليميا حيويا للهند، ومنطقة نفوذ لا غنى عنها للأميركيين.

وكان من الملاحظ أن كل خطوة للأمام في هذا المسار تبعتها خطوة إيجابية في تعزيز تعاون الهند مع إسرائيل. على سبيل المثال، في أعقاب توقيع اتفاق التبادل اللوجستي العسكري عام 2016 الذي يسمح لأميركا باستخدام القواعد العسكرية الهندية، جاءت زيارة رئيس الوزراء الهندي مودي لإسرائيل عام 2017 التي عززت التعاون العسكري الهندي الإسرائيلي بصورة غير مسبوقة.

بالمثل، حين وقَّعت الهند على اتفاقية “كومكاسا” عام 2018، التي منحت واشنطن صلاحيات واسعة للولوج إلى الاتصالات العسكرية للجيش الهندي، وتتيح للهند استخدام المعدات العسكرية الأميركية عالية التكنولوجيا في تأمين الاتصالات وتشفيرها بهدف تحصين نفسها من الاختراق الصيني، لحقتها زيارة نتنياهو إلى الهند التي أخذت التعاون بين البلدين إلى آفاق جديدة.

واليوم تشتري الهند ما يقارب مليار دولار من الأسلحة من إسرائيل سنويا في المتوسط، ما يجعلها أحد أكبر المشترين للأسلحة الإسرائيلية. وخلال الفترة من عام 2015 إلى 2019، كانت إسرائيل ثاني أكبر مورد للأسلحة للهند بعد روسيا، بنسبة تصل إلى 14% من إجمالي الواردات الهندية. شكَّلت هذه النسبة 45% من إجمالي صادرات الأسلحة الإسرائيلية تقريبا، ما يعني أن دلهي كانت المساهم الأساسي في دفع إسرائيل إلى خارطة أبرز مصدّري الأسلحة عالميا.

وفي الفترة من عام 2019 إلى 2023، حافظت الهند على مكانتها بوصفها أكبر مستورد للأسلحة من إسرائيل بنسبة 37% من إجمالي الصادرات الإسرائيلية. ركزت الواردات الهندية بشكل أساسي على الأسلحة ذات التكنولوجيا المتطورة، وخاصة الطائرات بدون طيار مثل مسيرة “هيرون” (Heron) القتالية، ومسيرة “سيرشر” (Searcher) الاستطلاعية، وأنظمة الرادار، ومنظومات الدفاع الجوي مثل “سبايدر” (SPYDER)، و”باراك إل آر” (BARAK-LR)، والصواريخ مثل “ديربي” (Derby)، و”باراك 8″ (BARAK-8)، وأخيرا طائرات الإنذار المبكر والتحكم (أواكس) من طراز “فالكون” (Phalcon)، وهو السلاح الذي سبق أن منعت أميركا إسرائيل من بيعه للصين في التسعينيات.

في غضون ذلك، شهدت العلاقات الأمنية والاستخباراتية بين الهند وإسرائيل قفزة كبيرة، حيث شكَّلتا معا مجموعة عمل مشتركة تحت بند مكافحة “الإرهاب” تختص في تبادل المعلومات الاستخبارية، كما أسستا “اللجنة التوجيهية الهندية الإسرائيلية المشتركة حول الأمن الداخلي”، التي تجمع بين وزارة الداخلية الهندية ووزارة الأمن العام الإسرائيلية التي تفرع عنها عدة مجموعات عمل مشتركة تتعلق بإدارة الحدود وتحديث الشرطة ومنع الجريمة.

وبالإضافة إلى ذلك، نُظمت برامج تدريب للضباط الهنود في أكاديمية الشرطة الوطنية الإسرائيلية، لتحسين مهاراتهم في التعامل مع الأجانب، وتعزيز قدراتهم في مجال الأمن والاستخبارات. وقد تجلى عمق التنسيق الأمني والاستخباراتي بين الطرفين عندما شاركت الأجهزة الأمنية الإسرائيلية في نوفمبر/تشرين الثاني 2015 في حماية رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي خلال زيارته لتركيا لحضور قمة مجموعة دول العشرين.

ولكن بعيدا عن مشهد التحالف الذي تقوده وترعاه الولايات المتحدة، والتعاون الأمني الوثيق بين البلدين، وجدت العلاقات الهندية الإسرائيلية رافدا آخر للحياة مُمثَّلا في الانسجام الشخصي بين مودي ونتنياهو، والتقاطع الواضح بين أيديولوجيتيهما: الهندوسية المتطرفة أو “الهندوتفا” والصهيونية.

الهِندوتفا والصهيونية.. التحالف الأيديولوجي:

للمفارقة، لم تكن “الهندوتفا” ابنا شرعيا خالصا للثقافة الهندية، لكنها وُلدت نتيجة لتلاقح هندي بريطاني وقع في خضم صراع فكري بين مدرستين متنافستين، كلٌّ منهما أثرته الأفكار الغربية بطريقتها الخاصة. المدرسة الأولى، التي اعتنقت مسار الإصلاح، سعت إلى إحداث تغييرات جذرية داخل المجتمع الهندوسي، بهدف إعادة تشكيله بالتماشي مع “الأفكار العقلانية” التي طبعت الغرب. أما المدرسة الثانية، وهي مدرسة النهضة، فسعت إلى تجسيد مفاهيم الماضي الهندوسي في محاولة لربط الهنود بجذورهم التاريخية لمجابهة الحضارة الإسلامية.

تبلورت هذه الأفكار تحت مظلة الاستعمار البريطاني الذي كان يرى الإسلام تهديدا رئيسيا لمصالحه في شبه القارة الهندية. وفي نهاية المطاف، انزوت حركة الإصلاح بفعل التحديات التي فرضتها أفكار التنوير الغربية على المجتمع الهندوسي، في حين اكتسبت حركات النهضة شعبية وقوة داخل المجتمع. وفي هذا السياق، نشأت وترعرت أفكار الأيديولوجيين الهندوس مثل سافاركار، وهيدجوار، وجولوالكار، التي تغذي التيار القومي في البلاد حتى اليوم.

يُعد فيناياك دامودار سافاركار تحديدا هو المهندس الأيديولوجي للـ”هندوتفا”، وصائغ العديد من أفكارها الأولية. لم يُخفِ سافاركار إعجابه بالفكرة الصهيونية، وحث على تبنيها وتطبيقها في السياق الهندي عبر المجالات السياسية والاجتماعية والطائفية. وكان دعمه للصهيونية متأصلا في اعتقاده بأن الهندوس واليهود يشتركان في تطلعات مشتركة، ويمكن لكلٍّ منهما المطالبة بالاعتراف بهما بوصفهما مجموعات عرقية متميزة.

أشاد سافاركار بالصهيونية ودعم إنشاء دولة إسرائيل، وانتقد تصويت الهند ضد خطة تقسيم فلسطين في أواخر عام 1947. وقد لخَّص سافاركار موقفه من الصهيونية بقوله: “إذا تحققت أحلام الصهاينة يوما ما -إذا أصبحت فلسطين دولة يهودية- فسيُسعدنا ذلك تقريبا بقدر سعادة أصدقائنا اليهود نفسها”.

العجيب أن سافاركار كان معجبا بهتلر أيضا ووصفه بـ”منقذ ألمانيا”، وكان مدافعا متحمسا عن النازية، لدرجة أنه لم يتورع عن إظهار إعجابه بالتشريعات المعادية لليهود التي وضعها النازيون، معتبرا إياها وسيلة لاستيعاب الأقلية داخل الأغلبية البيضاء الألمانية.

هذا التناقض الظاهر في موقف سافاكار بين اليهود في ألمانيا واليهود في إسرائيل يمكن فهمه حسب نظرته للقوة المهيمنة في كلا السياقين، إضافة إلى موقفه المسبق من المسلمين، ففي ألمانيا كان التفوق للبيض الألمان وكان اليهود مجرد أقلية عرقية تهدد التفوق الأبيض، وهو ما يتطابق في نظره مع وضع المسلمين في الهند الذين يعيشون في ظل الأغلبية الهندوسية.

تشترك الصهيونية والهندوتفا إذن في استناد كلٍّ منهما إلى جذور قومية دينية، فبينما تتطلع الصهيونية إلى بناء دولة قومية يهودية تحكمها الشريعة اليهودية، تسعى الهندوتفا إلى تأسيس دولة هندوسية تقوم على شرائع الهندوس. تعتنق كلتا الأيديولوجيتين مبادئ عرقية قومية، وتمارسان سياسات تمييزية إقصائية، بل وتطهيرية بحق الأغيار. تصنع هذه السياسات الإقصائية تجاه الأقليات الدينية الكبرى حالة من الإلهام المتبادل بين الأيديولوجيتين، لذلك لا عجب أن المتطرفين الهندوس يرون في القمع الصهيوني للفلسطينيين نظيرا وذريعة لممارسة قمع مماثل بحق الهنود المسلمين.

النظام الطبقى في الهند:

تركز الصهيونية والهندوتفا أيضا على التعليم والثقافة، مثل معظم الحركات الفاشية التقليدية. وتقضي كلتاهما الكثير من الوقت في محاولة محو الهوية الفلسطينية أو الهندية المسلمة أو الكشميرية، من خلال تعديل الكتب المدرسية والمناهج وحتى سرقة الأكلات الشعبية التقليدية.

ويتطلب هذا النشاط الثقافي من الحكومات دعم أظهرة شعبية تغذي توجهاتها المتطرفة، وتماما كما تدعم حكومة الاحتلال الإسرائيلي حركات الاستيطان والمنظمات الصهيونية المتطرفة مثل شبيبة التلال، تدعم حكومة مودي الجماعات الهندوسية المتطرفة مثل “راشتريا سوايامسيفاك سانغ” (RSS) و”فيشوا هندو باريشاد” (VHP) والمنظمة الطلابية “أكيل بهاراتيا فيديا بارشاد” (ABVP)، التي تُشكِّل معا القاعدة الصلبة المغذية والداعمة للتيار القومي الهندوسي المتطرف.

تمتلك الهندوتفا والصهيونية أيضا تصورا مشتركا للعدو، المتمثل في الأقليات الدينية وخاصة المسلمين، وتدعو كلتاهما إلى إنشاء نظام عرقي أحادي يسود فيه عرق واحد، ودين واحد، ولغة واحدة، كما تسعيان إلى حماية ما تعتبرانها حضارات متفوقة من التهديدات الخارجية، وخاصة من العدو (الإسلامي) المشترك. وقد شهدت الجامعات الهندية تنظيم ندوات تهدف إلى تأصيل تلك الروابط والتقاطعات بين الفكرتين، كما في الندوة التي أُقيمت في جامعة مومباي عام 2019، التي جمعت افتراضيا بين سافاركار وهرتزل لاستكشاف أفكارهما المفترضة والتفاعلات بينهما.

كما تتقاطع الأيديولوجيتان في تبنّيهما منظورا جغرافيا يتجاوز الحدود الوطنية المعتادة، حيث تسعى كلٌّ من الصهيونية والهندوتفا إلى تحقيق تصورات جغرافية تمتد إلى ما وراء الحدود التقليدية. تتبنى الصهيونية فكرة “إسرائيل الكبرى”، التي تشمل منطقة تمتد من نهر النيل إلى نهر الفرات، أما الهندوتفا فتعتمد على مفهوم “أخاند بهارات” أو “أخاند هندوستان”، الذي يصور وحدة جغرافية تضم شبه القارة الهندية بأكملها، بما في ذلك أفغانستان وبنغلاديش وبوتان والهند وجزر المالديف وميانمار ونيبال وباكستان وسريلانكا والتبت الحديثة.

ظهر هذا المصطلح، “أخاند بهارات”، إبان حركة الاستقلال الهندية، وقد حمل أهمية تاريخية كبيرة في سياق الدعوة إلى توحيد شبه القارة الهندية تحت مفاهيم القومية الهندوسية والهندوتفا. ومن خلال هذه التطلعات الجغرافية الواسعة، تعكس الصهيونية والهندوتفا رغبتهما في إعادة تشكيل الخرائط السياسية، وتحقيق تطلعاتهما في توحيد وتوسيع المناطق التي يرونها جزءا من هويتهما ومصيرهما الوطني.

Exit mobile version