فياضانات السودان تفاقم معاناة السودانيين

عمقت فيضانات اجتاحت مناطق واسعة في السودان خلال الأيام الماضية معاناة الأهالي المنهكين نتيجة الحرب المستمرة، والتي أدت إلى تقلص دور السلطات التي وجدت نفسها عاجزة عن إنقاذ المتضررين.

خلفت الفيضانات العارمة خسائر مادية فادحة بمناطق واسعة واقعة على ضفتي النيلين الأبيض والأزرق في السودان، وحاصرت المياه عشرات القرى والمُدن الواقعة على ضفاف النيلين اللذين يلتقيان في العاصمة الخرطوم، والتي اجتاحت الفيضانات عدداً من أحيائها أيضاً، ما دفع وزارة الري والموارد المائية إلى تحذير سكان المناطق الواقعة على مقربة من النيلين من مخاطر المياه التي وصلت إلى منسوب الفيضانات.

وقالت الوزارة في بيان، أمس الأول الثلاثاء، إن المياه في محطات ود العيس بمدينة سنجة في ولاية سنار على الحدود مع دولة جنوب السودان، وفي مدينة ود مدني، والخرطوم، وشندي، وعطبرة، وبربر، وجبل أولياء وصلت إلى منسوب الفيضان، بينما مناطق أخرى في ولايات الجزيرة، وسنار، والخرطوم، ونهرالنيل، والنيل الأبيض بلغت نقطة الفيضانات.

وعادة ما تهطل أمطار غزيرة في فصل الخريف الذي يستمر في السودان من يونيو حتى أكتوبر/ تشرين الأول من كل عام، وخلاله يواجه البلد سنوياً فيضانات واسعة النطاق. وخلال الفترة من 30 يونيو/ حزيران حتى 25 سبتمبر/ أيلول الماضي، تضررت 24 ألفاً و992 أسرة بإجمالي 125 ألفاً و56 شخصاً من الأمطار والفيضانات، بحسب أحدث إحصائية حكومية.

في ولاية الجزيرة (وسط)، غمر فيضان النيل الأزرق مساحات واسعة في ديم المشايخة، وأم دلكة، وقندال، وقال مسؤول في حكومة الولاية، لـ”العربي الجديد” إن “المناطق الزراعية التي غمرتها المياه تزيد على ثلاثة آلاف فدان، بعضها تتبع القطاع البستاني، وبعضها مزارع تضم محاصيل موسمية”.

عاد مئات المزارعين في ولاية الجزيرة إلى ممارسة النشاط الزراعي بعد عامين من النزوح بسبب الحرب، لكن الفيضانات أفقدتهم محاصيلهم، ويصف المزارع عبد الله يعقوب ما حدث بأنه “كارثة”، موضحاً لـ”العربي الجديد”، أن “المزارعين الذين فقدوا مدخراتهم بسبب الحرب، ضاعفت الفيضانات خسائرهم. الزراعة بالنسبة لنا ليست نشاطاً اقتصادياً يُقيم بالربح والخسارة، وإنما هى مربط حياتنا الأسرية، ومصدر لقمة الخبز التي كنا نأمل أن نوفرها لأسرنا التي تكبدت معاناة النزوح لأكثر من عامين، لكن الفيضانات دمرت كل آمالنا”.

وتوقع يعقوب أن يواجه سكان القرى الذين فقدوا مزارعهم نقصاً حاداً في الحبوب التي يعتمدون عليها بصورة أساسية، مع إحجام السلطات عن التدخل رغم الأضرار الكبيرة، وقال: “نعلم أن وضع السلطات المحلية غير مثالي نتيجة الحرب، لكن عدم تحركها لمساعدة المتضررين في أسرع وقت قد يجلب المزيد من الأمراض والجوع”.

وكانت خسائر الفيضانات فادحة في ولاية سنار التي تضم أكبر المساحات البستانية في السودان، ومن بينها مزارع الموز والبرتقال والليمون، إذ غمرتها مياه النيل الأزرق التي تدفقت نحو القرى القريبة، ومن بينها قريتا الرايات ومينا التي نزح عدد من سكانهما إلى قرى مجاورة.

من مدينة سنجة، يقول هيثم عبد القادر لـ”العربي الجديد”: “رغم أنه لا توجد خسائر في الأرواح، لكن عشرات السكان فقدوا مصادر عيشهم، ودمرت مياه الفيضانات البساتين ومزارع السمسم والذرة، ليفقد الناس المحاصيل التي شارفت على الحصاد خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول الحالي. عاد كثير من المواطنين من رحلة نزوح ولجوء طويلة، فقدوا خلالها مدخراتهم، وجاء الفيضان ليزيد معاناتهم المتواصلة منذ بداية الحرب”.

وحاصرت مياه النيل الأزرق مركز مدينة سنجة التي تقع في منطقة تجعلها محاطة بالمياه من ثلاث جهات، ما دفع السلطات المحلية إلى إعلان حالة الاستنفار القصوى. وتقول عائشة كرم الله التي يقع منزل أسرتها بالقرب من النيل، إن أسرتها المكونة من سبعة أفراد تستعد لمغادرة المنزل خشية أن يغمره الفيضان. وتضيف لـ”العربي الجديد”: “لو غادرنا منزلنا، فستكون هذه المرة السادسة التي ننزح فيها منذ بدء الحرب قبل ثلاثين شهراً، ونأمل أن لا يحدث ذلك لأنه ليس لدينا أي استطاعة لتحمل النزوح مجدداً، ويكفينا ما عشناه خلال الفترة الماضية”.

ويعاني سكان المنطقة الواقعة شرق النيل الأزرق التي تمتد بين ولايتي الجزيرة وسنار صعوباتٍ جمةً بسبب انقطاع الطُّرق وتوقف وسائل النقل، في الوقت الذي تنتشر فيه الأمراض بالمنطقة، ما دفع عدداً من سكان القرى إلى التنقل بمراكب بدائية إلى القرى المجاورة.

ومن إحدى قرى ريف مدينة السوكي شرق النيل الأزرق، يقول محمد سليمان لـ”العربي الجديد”: “توقفت الحياة تماماً في المنطقة التي كانت مسرحاً لعمليات عسكرية استمرت لحوالي العام ونصف العام بين الجيش وقوات الدعم السريع، وشهد فصل الخريف الماضي تفشياً واسعاً للكوليرا، وقضى عشرات الناس، وفي العام الحالي حدث الفيضان، وانتشرت الملاريا وحمى الضنك. كأنه كتبت علينا المعاناة، وفي المرتين لم نجد من يعيننا على تجاوز المحنة، فالحكومة المحلية غارقة في مشاكلها، ولا تملك القدرة على إنقاذ الأرواح”.

بدوره، يشكو يوسف عبد الله، من إحدى القرى الواقعة جنوب مدينة كوستى بولاية النيل الأبيض، من تداعيات الفيضانات التي حاصرت عشرات القرى في المنطقة، ويقول لـ”العربي الجديد”: “لم يتفقد أحد المنطقة التي تضم أكثر من 27 قرية، وكلها تضررت من فيضان النيل الأبيض الذي جعلنا نعيش في جزيرة شبه معزولة تماماً طوال أسبوع كامل. غمرت المياه مساحات واسعة في المنطقة، وسوف تظل راكدة لأشهر قادمة، ما يخلق بيئة مواتية لتوالد البعوض والذباب، ونتوقع أن تتفشى الملاريا وأمراض أخرى بين المواطنين بالتزامن مع ندرة الأدوية، وعدم وجود مستشفيات أو مراكز صحية في المنطقة”.

وتتشابه معاناة السكان في العاصمة الخرطوم التي دمرت الحرب بنيتها التحتية، مع أوضاع سكان القرى في الولايات المتأثرة بالفيضانات، إذ توغلت مياه الفيضانات إلى أحياء الشجرة، والشقيلاب، والكلاكلة الواقعة في جنوب العاصمة. وتقول ميساء مصطفى، وهى معلمة في المرحلة الثانوية تقيم في الكلالكة، لـ”العربي الجديد”: “الأوضاع في غاية الخطورة، والمياه تتدفق إلى وسط الأحياء السكنية، وتغمر الشوارع، ولا توجد أي جهة رسمية تتصدى لها، ومن غير المُستبعد أن يخسر سكان منازلهم، وأن ينزح آخرون مجدداً، رغم أنهم عادوا مؤخراً إلى المدينة بعد نزوح طويل من أجل ترميم منازلهم التي تعرضت للسرقة والنهب والقصف بالأسلحة الثقيلة”.

من حي الشقيلاب، يقول أحمد سالم، وهو أحد المتطوعين لمراقبة الفيضان لـ”العربي الجديد”: “لم تتحرك السلطات حتى الآن للوقوف على خطر الفيضان الذي غمر الأحياء، وتركت الأمر للسكان الذين عادوا من النزوح الطويل في حالة يرثى لها، وهم حالياً يقاومون تدفق المياه بأيديهم العارية من دون أية آليات، إذ يقومون بتعبئة جوالات بالتراب لردم الأماكن الهشة، وهو جهد بدائي ضعيف، ويمكن أن ينهار أمام تدفق المياه إذا ارتفع منسوبها”.

ويعيش سكان جزيرة توتي الواقعة عند ملتقى النيلين الأبيض والأرزق في الخرطوم ظروفاً مأساوية، إذ إن منسوب المياه أصبح يهدد حياة السكان بصورة لافتة. ويقول سليمان قاسم، وهو أحد سكان الجزيرة، لـ”العربي الجديد”: “السكان في حالة فزع لأن منسوب المياه تجاوز عدة نقاط على الحواجز الترابية التي شيدوها بأيديهم في ظل غياب السلطات. جهود التصدي للفيضان الذي يحاصر الجزيرة يقوم بها متطوعون من السكان، على غرار ما يفعله سكان أحياء الكلاكلة والشقيلاب في جنوب الخرطوم، وحي ود رملي الواقع في الشمال، وكلها تحاصرها الفيضانات التي سبق أن ألحقت بها أضراراً كبيرة في عام 2020”.

ورغم تنبيهات وزارة الري والموارد المائية المتكررة بشأن خطورة الأوضاع في جميع المحابس على النيلين الأبيض والأزرق، لم تكشف عن حجم الخسائر المادية التي نتجت عن الفيضانات، لكنها اعترفت عبر بيانها الأخير، باستمرار ارتفاع مناسيب المياه، وأكدت أن تصريف سد سنار ارتفع إلى 706 ملايين متر مكعب، وتجاوز تصريف جبل الأولياء 134 مليون متر مكعب، وتجاوز تصريف سد مروي 750 مليون متر مكعب، في حين انخفض تصريف سد خشم القربة إلى 58 مليون متر مكعب، وانخفض تصريف سد الروصيرص إلى 540 مليون متر مكعب.

Exit mobile version