فيديو مصور يفند رواية الاحتلال بشأن مجزرة المسعفين في رفح

يوم 29 يناير/كانون الثاني 2024 كانت الطفلة هند رجب (6 سنوات) تنتقل بالسيارة مع عدد من أقاربها في منطقة تل الهوى، محاولين الخروج منها، بعد إنذارات إسرائيلية لسكان المنطقة بالإخلاء، قبل أن تتعرّض السيارة لإطلاق نار من الدبابات الإسرائيلية، ما أدى إلى مقتل كل من كانوا برفقتها، لتحاصر وحيدة داخل السيارة وتعيش لحظات طويلة من الرعب. يومها تواصل الهلال الأحمر الفلسطيني مع هند عبر الهاتف وحدثتهم عن ظروفها، قبل أن يذهب مسعفان لإنقاذها، غير أنّ الاحتلال الإسرائيلي قتل هند والمسعفَين، ولم يتمّ الوصول إلى جثامين الثلاثة إلا بعد 12 يوماً وقد تحلّلت جزئياً.

وزعم جيش الاحتلال وقتها أنه فتح تحقيقاً، لكنه قال إن التحقيقات الأولية لم تشر إلى وجود قوات تابعة له بالقرب من مكان الجريمة، وهو ما تبيّن كذبه، إذ إن خبراء في الأمم المتحدة، خلصوا في يوليو/تموز الماضي إلى أن تحليلاً أجري “لمسرح الجريمة يقدّم أدلة دامغة” على أن موقع سيارة العائلة كان “في مجال رؤية دبابة إسرائيلية وكيف تمت إصابتها من مسافة قريبة باستخدام نوع من الأسلحة يمكن أن ينسب فقط إلى القوات الإسرائيلية”.

فيديو يوثق مجزرة المسعفين

هذا الكذب الإسرائيلي، الذي بات سيناريو معتاداً مع كل جريمة ومجزرة يرتكبها في القطاع منذ عدوانه في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، في محاولة لطمس معالم إجرامه، مستفيداً في أحيان كثيرة من غياب التوثيق بالصوت والصورة، تكرّر مرة أخرى مع مجزرة المسعفين في مدينة رفح جنوبي قطاع غزة، لكن إنكاره مجزرة المسعفين التي ارتكبها جنوده بدم بارد بحق 15 مسعفاً، والذي امتد منذ 23 مارس/آذار الماضي، انتهى بعدما نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية، أول من أمس الجمعة، شريط فيديو عُثِرَ عليه في هاتف أحد المسعفين الذين استشهدوا يوثق الإعدام الميداني الذي تعرض له المسعفون ويدحض رواية الاحتلال الذي حاول طمس مجزرة المسعفين عبر دفنهم في مقبرة جماعية والتلاعب بمسرح الجريمة.

وكان المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي نداف شوشاني قد قال، في بيان أخيراً، إن القوات الإسرائيلية لم تهاجم سيارات إسعاف “عشوائياً”، لكن جرى التعرف إلى مركبات عدة “تتقدم بشكل مثير للريبة” دون مصابيح أمامية أو إشارات طوارئ باتجاه القوات الإسرائيلية، ما دفعها إلى إطلاق النار عليها. وزعم أن تسعة من القتلى هم من المسلحين من “حماس” و”الجهاد الإسلامي”. إلا أن الفيديو الذي قالت الصحيفة إنها حصلت عليه من دبلوماسي كبير في الأمم المتحدة طلب عدم الكشف عن هويته، فضح كذب الاحتلال، وهو ما اضطر جيش الاحتلال أمس للقول إنه سيجري تحقيقاً معمقاً بعد نشر الفيديو.

ويظهر فيديو مجزرة المسعفين أن سيارات الإسعاف وشاحنة الإطفاء كانت مميزة بوضوح وكانت أضواء إشارة الطوارئ مضاءة عندما أطلقت القوات الإسرائيلية النار بكثافة نحوها. وقال مسؤولون من جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني في مؤتمر صحافي في مقر الأمم المتحدة، الجمعة الماضي، إنهم قدموا التسجيل الذي مدته نحو سبع دقائق إلى مجلس الأمن.

بكر التركماني: نشر المقطع يضعف بشكل كبير ادعاءات الاحتلال الإسرائيلي ويعزز الرواية الفلسطينية أمام الإعلام الدولي

ويظهر الفيلم المأخوذ عن هاتف محمول لأحد المسعفين قافلة من سيارات الإسعاف وسيارة إطفاء، وعليها مصابيح أمامية وأضواء وامضة مضاءة، وهي تسير جنوباً على طريق إلى الشمال من رفح في الصباح الباكر. وتتوقف القافلة عندما تصادف سيارة إسعاف انحرفت على جانب الطريق، والتي كانت قد أُرسلت في وقت سابق لمساعدة مصابين، لكنها تعرضت لهجوم أيضاً.

ويظهر في الفيديو مسعفون، يمكن رؤية اثنين منهم على الأقل يرتدون الزي الرسمي، وهم يخرجون من سيارة إطفاء وسيارة إسعاف تحمل شعار الهلال الأحمر ويقتربون من سيارة الإسعاف، قبل أن يسمع ويشاهد بعد ذلك إطلاق نار كثيف باتجاه القافلة لمدة خمس دقائق. ويقول رجل باللغة العربية إن هناك إسرائيليين، فيما يسمع صوت المسعف بعد ذلك، وهو يقرأ الشهادة مراراً، ويطلب من الله المغفرة ويقول إنه يعلم أنه سيموت. وقال: “سامحيني يا أمي. هذا هو المسار الذي اخترته لمساعدة الناس. الله أكبر، الله أكبر”. وفي الخلفية، يمكن سماع ضجة من أصوات عمال الإغاثة والجنود وهم يصرخون بالعبرية، من دون أن يتبين ما يقولونه.

وقالت المتحدثة باسم جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، نبال فرسخ، في مقابلة من مدينة رام الله بالضفة الغربية مع “نيويورك تايمز”، إنه عثر على جثة المسعف الذي صور الفيديو في المقبرة الجماعية، وهي مصابة برصاصة في الرأس. وكان الأمر قد استغرق خمسة أيام بعد أن تعرضت سيارات الإنقاذ للهجوم والتزام الصمت حتى تتفاوض الأمم المتحدة والهلال الأحمر مع الجيش الإسرائيلي من أجل ممر آمن للبحث عن المفقودين، والذين تعُثر على جثثهم، الأحد الماضي، في مقبرة جماعية إلى جانب سيارات الإسعاف المحطمة وسيارة تحمل شعار الأمم المتحدة.

وأشارت الصحيفة إلى أنه بعد ساعات من اختفائهم جرى التقاط صورة عبر الأقمار الاصطناعية للمنطقة التي كانت قد توقفت فيها سيارات الإسعاف، موضحة أن تحليلاً أجرته صحيفة ذا تايمز البريطانية للصورة وقتها أظهر أن سيارات الإسعاف الخمس وشاحنة الإطفاء نُقلت بعيداً عن الطريق، وبعد يومين، أظهرت صورة جديدة من الأقمار الاصطناعية أن المركبات دُفنت، وإلى جانبها توجد ثلاث جرافات عسكرية إسرائيلية وحفارة. بالإضافة إلى ذلك، أقامت الجرافات حواجز ترابية على الطريق في كلا الاتجاهين من المقبرة الجماعية.

توثيق لاستهداف مباشر للمسعفين

وقال بكر التركماني، منسق التحقيقات في الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (ديوان المظالم)، وهي المؤسسة الوطنية الرسمية المكرسة لدعم حقوق الفلسطينيين، لـ”العربي الجديد”، إن فيديو مجزرة المسعفين جزء من تفنيد مباشر للرواية التي يسوقها الاحتلال الإسرائيلي، والذي غالباً ما يدعي أن استهدافاته تقتصر على مقاتلين أو بنية تحتية عسكرية. وأضاف التركماني، لـ”العربي الجديد”، إن “الفيديو أظهر عملية الاستهداف المباشر لعناصر من الدفاع المدني وطواقم الإسعاف وسيارات الإسعاف، ما يوثق جريمة حرب وانتهاكاً واضحاً لقواعد القانون الدولي الإنساني، وتحديداً اتفاقيات جنيف، التي تحظر بشكل قاطع استهداف طواقم الإسعاف والدفاع المدني، باعتبارهم من الجهات المدنية المحمية”.

وبحسب التركماني فإن نشر فيديو مجزرة المسعفين يضعف بشكل كبير ادعاءات الاحتلال الإسرائيلي، ويعزز بشكل صارم الرواية الفلسطينية أمام الإعلام الدولي، والجهات الدولية، والمؤسسات الحقوقية العالمية، والجهات القضائية، مشدداً على أن الركيزة الأساسية لهذا المقطع أنه يقدم مادة بصرية لا يمكن إنكارها بسهولة، ما يعزز المصداقية القانونية والإنسانية للقضية الفلسطينية ويجعل من الصعب تجاهل الانتهاكات التي ترتكبها إسرائيل بحق المدنيين.

ولفت التركماني إلى أنه جرى توثيق شهادات ومقاطع تظهر عمليات إعدام لمدنيين وعمال إنقاذ ومصابين، في ظل غياب أي اشتباك حقيقي أو تهديد أمني مباشر، وفقاً لما يدعيه الاحتلال الإسرائيلي، مبيناً أن النمط المتكرر لهذه الجرائم يعكس بوضوح أنها ليست حوادث فردية، بل هي منهجية، وهو ما يعزز إمكانية تصنيف هذه الانتهاكات كجرائم حرب أو حتى جرائم ضد الإنسانية خلال حرب الإبادة الحالية. وأردف أنه أصبح من الممكن لفلسطين تقديم ملف موثق بالأدلة والصور والفيديوهات وتقارير طبية وإفادات الشهود التي تثبت ارتكاب الاحتلال جرائم حرب إلى المحكمة الجنائية الدولية، ويعتمد هذا التوثيق على تكرار هذه الجرائم وتوثيقها أمام المحكمة، كما يمكن استخدام الولايات القضائية العالمية في بعض الدول التي تسمح بمحاكمة مجرمي الحرب الذين يوجدون على أراضيها.

محمد المغبط: جرى توثيق عشرات الحالات التي نفذت فيها القوات الإسرائيلية إعدامات خارج نطاق القانون

من جانبه، قال مدير المكتب الإقليمي للمرصد الأورومتوسطي في بيروت محمد المغبط، لـ”العربي الجديد”، إن مجزرة المسعفين ليست الأولى بالطبع لإعدام مدنيين محميين بموجب القانون الإنساني الدولي، مشيراً إلى أنهم وثقوا عشرات الحالات التي نفذت فيها القوات الإسرائيلية إعدامات خارج نطاق القانون، سواء خلال اجتياح قوات الجيش مناطق سكنية أو بعد اختطاف نازحين على الحواجز العسكرية. وأوضح المغبط أن حادثة إعدام المسعفين وعناصر الدفاع المدني تمثل الاستهداف الإسرائيلي المركز والمتعمد للقطاع الصحي والخدمي خلال جريمة الإبادة الجماعية، مضيفاً أن إسرائيل منذ اللحظة الأولى وضعت المستشفيات هدفاً لعملياتها العسكرية، وقصدت بذلك إعدام واحد من أهم القطاعات المنقذة للحياة في غزة بهدف إهلاك الفلسطينيين وتهجيرهم عن أرضهم.

وأشار إلى أن الفيديو في هذه الحالة يعد توثيقاً مهماً بالصوت والصورة لتأكيد الرواية التي قدّمها الدفاع المدني والهلال الأحمر، وأيضاً شهود العيان الذين جرى توثيق شهادتهم، إذ إن الفيديو يضفي دليلاً دامغاً على زيف ادعاءات الجيش الإسرائيلي بخصوص الحادثة، ويفتح الباب لجميع من هم في موقع المسؤولية وجميع المعنيين إدراك مدى تلاعب الجيش الإسرائيلي في التفاصيل واستخدام ماكينته الإعلامية للتغطية على جرائمه المتواصلة بحق المدنيين.

وشدد على أن هذا الفيديو يخبر بشكل واضح أن جميع إعلانات الجيش الإسرائيلي مشكوك فيها، ولا يمكن اعتماد روايته بشكل مطلق، ويجب أن يدفع جميع هيئات التحقيق واللجان ذات العلاقة، وكذلك وسائل الإعلام، إلى عدم التعاطي مع إعلانات الجيش الإسرائيلي على أنها حقائق، وبذل جميع الجهود الممكنة لفهم الأحداث وتقصيها بعيداً عن الرواية الرسمية للجيش الإسرائيلي.

وأكد المكتب الإعلامي الحكومي بغزة، في بيان أمس السبت، أن الجيش الإسرائيلي نفذ إعداماً وصفه بـ”الوحشي وغير المسبوق” بحق الطواقم الطبية والدفاع المدني في رفح في 23 مارس الماضي. وطالب “بفتح تحقيق دولي مستقل في جريمة إعدام الطواقم الطبية والدفاع المدني”، وإرسال “لجان تقصي حقائق إلى المواقع المستهدفة، وزيارة المقابر الجماعية التي أخفت إسرائيل وراءها فصولًا من الرعب والإبادة الجماعية الممنهجة”.

وأكدت المقررة الأممية لحقوق الإنسان في فلسطين فرانشيسكا ألبانيز، في منشور على منصة إكس أمس السبت، أن إسرائيل تخفي الأدلة على قتل المسعفين. وقالت إن “ما يحدث في غزة ليس حرباً بل إبادة جماعية، وأنه لا توجد حماية لأرواح الفلسطينيين”، موضحة أن “الدليل على قتل المسعفين في رفح تم إخفاؤه”، مشددة على أن “الحريات تتعرض للانتهاك في الغرب”، وداعية إلى “ضرورة حدوث ثورة ضد النظام الذي يسحق الحريات ويضر بالمدنيين”.

Exit mobile version