فيلم ” السُلطانة”: لم يبع الفلسطينيون أرضهم

طرح الفيلم الروائي الأردني «السُلطانة» الذي عُرض في افتتاح مهرجان العودة الفلسطيني في دورته الثامنة سؤالاً مهماً حول مفهوم الهوية ومعناها، وأثرها النفسي والوجداني والثقافي والتاريخي. كما ناقش بشكل صريح الدعاوى المزعومة عن تفريط الفلسطينيين في أرضهم ببيعها لإسرائيل، مُتحدياً أن يأتي الزاعمون بدليل واحد يؤكد هذه الفرية، وهذا الاتهام الباطل المغلوط. جاء عنوان «السُلطانة» إشارة إلى اسم البطلة التي تُمثل العمود الفقري للأسرة الفلسطينية، وفق رمزية الشخصية التي جعلها المخرج هيثم عبد الله مُتحدثاً رسمياً باسم الشعب الفلسطيني في دفاعها عن الأرض، ومجابهتها للابن الأكبر الطامع في الثراء على حساب التاريخ والجغرافيا، كونه يدفع في اتجاه البيع ضاغطاً على أسرته للموافقة على التفريط في ما تبقى لهم من ميراث وتراث، ليتمكن من شراء سيارة تُسهل عليه الانتقال وتُحقق له الراحة والرفاهية.
كانت هذه النقطة الجوهرية المحورية نواة للصراع الدرامي في الفيلم المهم، حيث مثلت الأحداث في مُجملها صورة بانورامية، تم بموجبها إسقاط الحالة الفنية الإبداعية على الواقع السياسي الفلسطيني والعربي، فالشقاق الحادث بين أفراد الأسرة الواحدة المكونة من الأب والأم والأبناء والأحفاد هو بذاته الشقاق الحادث على أرض الواقع، بين الأشقاء العرب المُتنازعين الفرقاء.

لقد أحسن المخرج هيثم عبد الله صُنعاً حين اختار هذه الثيمة ليُعبر بها عن الهموم العربية، وينزع عن المشكلات المُتفاقمة غلالة الدبلوماسية المُهترئة، فتبدو كل الندوب والجروح مكشوفة على السطح، وتلك هي وظيفة الإبداع السينمائي، الذي يضع الأورام المُجتمعية الخبيثة تحت المجهر، ليتسنى للمعنيين مُعالجتها قبل فوات الأوان وضياع فرصة الشفاء. لقد ظل الصراع بين الابن الأكبر وبقية العائلة الصغيرة مُحتدماً من بداية الفيلم وحتى نهايته، فالجميع يرفضون أن تتحقق الرفاهية الطامع فيها الابن على حساب الوجود الحقيقي لهم وأن تكون المُقايضة على الرفاهية الزائلة بالأرض الباقية منذ آلاف السنين، لذا لم يكن الاعتراض قراراً فردياً من السُلطانة ربة البيت، وعنوان الكرامة، بل جاء الرفض القاطع لبيع الأرض من جميع أفراد الأسرة، بمن فيهم الأطفال الذين يُمثلون مستقبل الدولة الفلسطينية، فلا مناص من وأد الفكرة في مهدها قبل أن تتحول إلى واقع مرير وعبارات ركيكة تلوكها الألسنة الحاقدة.
هكذا كان الإجماع على عدم التفريط في شبر واحد من الأرض الفلسطينية الغالية المروية بدماء الشهداء والأبطال، واستقر المعنى الدلالي للفيلم الذي قام ببطولته، جولييت عواد وأنور خليل وعدد من المُمثلين الشباب، كان من بينهم، عمر حلمي ورسمية عبده وحبيب طُبيشات والأطفال آدم القدسي ومحمد أبو حميد وديما فريحات ويوسف الدبعي وعون أبو حميد. وقد عزز وجود الأطفال في فيلم السُلطانة من رسوخ الفكرة الإيجابية الرامية إلى التمسك بالأرض والوطن إلى ما لا نهاية، فالنضال سيظل متوارثاً جيلاً بعد جيل، حتى يتم الجلاء ويتحقق الاستقلال التام، فالمستقبل الذي يُشير إليه النشء الجديد لا يُمكن إدراكه إلا بالثبات على المبادئ الأساسية للقضية، وهو الخيط الرفيع الذي حرص المخرج على إبرازه ليؤكد من خلاله الرسالة السياسية المُستهدفة من الفيلم.

وبالفعل جاءت الرسالة واضحة كل الوضوح، فما من مشهد إلا وحمل إشارات البيان الكاملة لقيمة وأهمية التراث الفلسطيني، بداية من الديكور والموسيقى ونوعية المأكولات والمفروشات والنمط الحياتي وشكل البيت والأزياء إلى آخر أمارات ودلالات الخصوصية في البيئية الفلسطينية، حتى أنواع المشروبات والأغاني المُفضلة، والموسيقى التصويرية واجتماع الأسرة حول مائدة الطعام، والحوار المُتبادل بين الأفراد، والثقافة العامة التي تربط بينهم وتوحدهم. كل هذه علامات ليست افتراضية، لكنها واقعية وقائمة ومستمرة، رغم التضييق والحصار والشتات ومحاولات الوقيعة بين الأشقاء، بالفتن والتضليل والشائعات المُغرضة، لإحداث الفرقة وتفتيت القوة، وربما الالتفات إلى هذه التفاصيل كان من أهم مميزات الفيلم الروائي، الذي استوعبت مساحته الزمنية القصيرة الكثير من الأفكار والأطروحات، فكان شافياً وافياً في معناه ورؤاه ومضامينه الثقافية والاجتماعية والإنسانية.
إن جُل ما يُميز الأفلام الروائية القصيرة والمتوسطة هو التكثيف والوصول إلى المعنى بأقصر الطُرق، وتلك إمكانية لا تتوافر إلا إذا توافرت المواهب الداعمة لها في مجال كتابة السيناريو والإخراج، والموسيقى والتصوير، والمونتاج والمكساج والإضاءة، والتمثيل والعناصر كافة جيدة التوصيل. كثير من هذه الأدوات كان مُتحققاً في الفيلم الروائي الأردني «السُلطانة» لمخرجه الموهوب هيثم عبد الله.

القدس العربي

Exit mobile version