مؤمن سحنون.
بدأ ذلك اليوم كغيره من الأيام داخل ذلك العالم الذي ولد فيه، حيث لا يعرف الصبي من المشاهد البصرية سوى الجدران الإسمنتية سيئة الطلاء، والقضبان الحديدية التي تحيط به وتحيط بأمه في زنزانتها المجاورة التي يتكدس فيها عدد من النساء الخائفات. لكنه يومها سمع فجأة صوت جموع من الرجال يتعالى من بعيد ويقترب، إن هذا الصبي يعرف هذا صوت فهو من الأصوات التي قرعت أذنيه منذ ولادته، لكنه يعرف نوعين من الرجال، نوع السجانين ونوع المسجونين، يعرف صوت السجان الذي ينهال بالشتائم وسب الله وأقذر الألفاظ على المسجونين، ويعرف صوت أنين المسجون الذي أصرخه التعذيب وأثقل كاهله، إنه يعرف من الوجوه نوعين، وجوه السجانين التي ينبعث منها الشر والكره والحقد، ووجوه المسجونين التي تُعبّر تفاصيلها عن معاناة الليالي والسنين في ذلك القبر الذي صُنع للأحياء، لقد حفر “صيدنايا” على وجوههم وأجسادهم وأصواتهم أخاديده، وحفر في وجدانهم الشروخ الغائرة.
لكنه سمع في ذلك اليوم صوت جديد كان غريب عليه، من بين الكلمات المتداخل سمع صوت يهتف (الله أكبر)، نعم هو يعرف هذه الكلمة، لكن دائمًا ما كانت تقولها أمه أو بعض النسوة المسجونات أو المساجين وبصوت الهمس أو بنبرة الكبت والخوف، أو يسمعها عند إهانة السجانين للأسرى عندما يرغمونهم على تأليه بشار، لكنها هذه المرة تقال بنبرة جديدة، نبرة عزة، نبرة جرأة وتحدٍ.
عالم جديد عالم الحرية:
![](https://i0.wp.com/alwalalyemeni.com/wp-content/uploads/2025/02/image-30.png?resize=700%2C350&ssl=1)
اقترب الصوت أكثر فتقدم الصبي داخل زنزانته ليرى مصدر الصوت، إنهم رجال يلبسون الزي العسكري، فيهم من يبكي فرحًا، وفيهم من يحاول طمأنة النساء المسجونات وراء الأبواب وتهدئة روعهم، رآهم يحملون أسلحة، لكنهم لا يوجهونها للأسرى، بل يكسرون بها أقفال السجن، لقد اكتشف نوع ثالث من الرجال، ولعل مشهد كسر أحدهم لقفل باب الزنزانة التي كانت أمه داخلها رسخ عنده ملامح النوع الجديد من هؤلاء الرجال، فهم يكسرون ما كان يحرسه السجان.
خرج الصبي من الزنزانة وتجاوز القضبان الحديدية، رأى أمه تخرج ومعها بقية النسوة، حالة من الازدحام والارتباك والفرح، لقد تفاجأ الجميع بما يحدث، رفعت أم الصبى ابنها وتوجهت به إلى الممر، بدأ الصبي يكتشف عوالم جديدة، لم يكن يتصور أن في هذا الوجود مكان أوسع من الغرفة التي كان يعيش فيها، فإذا به يحتوي على أماكن أوسع، سارت به أمه في عدة ممرات، وانتهى بهم المسير إلى ساحة خارج البناية، ألقى بنظره إلى الأعلى فلم يجد سقفًا، استغرب الأمر واستوحشه، لقد ظن منذ بداية تشكل مداركه أن السماء عبارة عن سقف إسمنتي، أين ذهب السقف، أين الجدران الكثيفة، أين ذلك العالم الضيق، ما هذه الفضاءات الواسعة، لماذا يتكلم للناس بصوت عالٍ، ألا يخافون أن يأتي السجان كعادته فيسحب منهم ضحية جديدة يتلذذ بتعذيبها طيلة الليل؟!
لم يستطب الصبي في البداية عالمه الجديد، بقي لفترة في حالة توجس؛ لأن مداركه تكونت في العالم القديم، لم يتعود أن تلامس خده النسائم والرياح، فعالمه القديم داخل “صيدنايا” جامد لا رياح فيه، تملؤه روائح الرطوبة وروائح الموت.
لقد أدرك بعد يوم من خروجه أن هناك أشعة تأتي عند الصباح وتضيء الأرض، لم تحتمل عيناه الصغيرتان ضوء الشمس، لم يكن يعلم بوجود شيء اسمه شمس، كانت أقوى وسائل الإضاءة التي رآها في حياته فانوس السجن الأصفر، كانت الحياة كلها ليل، ولم يدرك بعد أن هناك بعد الليل ضياء مشرق، تُبدد أشعته العتمة، وتلاحق أنواره جيوش الظلام حتى تصرعها عند انبلاج الصباح.
السجن الكبير:
![](https://i0.wp.com/alwalalyemeni.com/wp-content/uploads/2025/02/image-31.png?resize=630%2C350&ssl=1)
تأملت في مشهد هذا الصبي، كيف وقع تشكيل المعاني وإدراك الأمور عنده منذ ولادته داخل السجن، لقد توهم أن ما كان يراه ويعيشه هو العالم الطبيعي، فقد تربت مشاعره وأفكاره على حدود ذلك الإطار، ولم يكن يتصور أن المساحات أرحب من سجنه، حتى أنه أصيب بالدهشة عندما خرج، بل قد يكون قد طلب من أمه أن تعيده للسجن، لبيته الذي يعرفه والذي تربت مداركه فيه.
ثم تأملت في حالنا كشعوب مسلمة، ألسنا نعيش حالة مشابهة لحالة هذا الصبي؟! ألم نولد في تقسيمات استعمارية صنعها المحتل الأجنبي ثم أوكلها للسجان المحلي، وكبرنا داخل هذه التقسيمات بأسلاكها الشائكة وحواجزها الفاصلة بين كل بلد وبلد كأنها أسوار معتقل كبير؟!
ألم يقع تشكيل مداركنا وضبط أفكارنا وعقولنا منذ الصغر على أن الوطن هو هذه الرقعة ذات حدود وأن حدودها مقدسة، نعم كبرنا على تقديس حدود سايكس بيكو، بل وقع إيهامنا أن تقديس الحدود الاستعمارية من دين الله، وأن حماية وحراسة الحدود واجب شريف، كأن ما وراء تلك الحدود عدو متربص، بينما كانت الحقيقة أن وراءها أهلنا المسلمون وإخوة لنا يعيشون نفس الوهم الذي نعيشه، بينما المحتل الحقيقي في داخل بلادنا ينهب ثرواتنا ويستنزف خيراتنا ويعلم أطفالنا ويتحكم في حياتنا ولا أحد يحاسبه.
ألم يُعلّمونا احترام السجانين القائمين على هذه السجون الكبيرة، الذين يُسبح بحمدهم عمائم السلطان، أليس الخروج على دين الله أهون عندهم من الخروج على طغيان الظلمة، أو هكذا يتصورن؟!
نأكل الجوع ونستقي الظما
وننادي: يحفظ الله الإماما
سل ضحايا الظلم تخبر أننا
وطنٌ هدهده الجهل فناما
دولة “الأجواخ” لا تحنو ولا
تعرف العدل ولا ترعى الذماما
تأكل الشعب ولا يسري إلى
مقلتيها طيفه العاني لماما
وهو يسقيها ويظمى حولها
ويغذيها ولم يملك طعاما
تشرب الدمع فيظميها فهل
ترتوي؟ كلا: ولم تشبع أثاما
عقلها حول يديها فاتحٌ
فمه يلتقم الشعب التقاما (*)
تكلفة الحرية.. الوعي:
![](https://i0.wp.com/alwalalyemeni.com/wp-content/uploads/2025/02/image-32.png?resize=700%2C399&ssl=1)
نعم لقد تشكلت أسوار السجن في عقولنا ونشأنا داخله وكبر معنا ذلك الوهم، وتسلل لقلوبنا وعقولنا، وأصبحنا نوالي ونعادي على تقسيمات الاحتلال، وأصبحنا نصنع من حراس الحدود أبطالًا، ومن إخوة لنا وراء تلك الخطوط غرباء أجنبيين، وأصبح لكل سكان إقطاعية من الإقطاعيات جنسية، يتوهم من خلالها التفوق على إخوته من بقية الجنسيات، الذين يعيشون نفس الوهم، فكل منا تلقى تربية قومية وشعور قومي ودين قومي.
ألم يحاصر حراس السجن إخوتنا في إحدى المقاطعات، ومنعوا عنهم الغذاء والدواء، ورأينا جوعهم بأعيننا، بينما يتماها السجانون في تخديرنا بالمخدرات الإعلامية والقدوات الزائفة ووسائل الإلهاء؟!
ألم تأتِ جحافل الغزو الغربية ونزلت بثقلها على أرض ثاني القبلتين، وسفكوا دماء عشرات الآلاف وانتهكوا الحرمات وهدموا المساجد والبيوت، بينما جيرانهم في الزنازين، أقصد في “البلدان” المجاورة مقيدون من حراس السجن، متشبعون بالوهم القومي، تقصف هممهم لحى الاستعمار بتوجيهات الخضوع، مستضعفون من السجان المحلي، مقيدون من الاحتلال الأجنبي؟!
حتى إذا ما جاءت لحظة الحرية، رأيت من يحنّ إلى عالمه القديم، إلى أسوار وقوانين ورموز الدولة القومية، إلى هذه المستعمرات ومستعمريها، بل يفضل فئام منهم عند ساعة شروق بريق الحرية أن ينشغلوا بتزيين السجن وطلائه وتنظيفه وإعادة تأهيل السجناء فيه والمصالحة مع السجانين، في حين أنهم كانوا على مرمى حجر من هدم السجن وكسر قضبانه وإسقاط أسواره، إنه التعلق بالسجن، إنها العبودية التي عمّقها الاستبداد في النفوس، إنها المفاهيم التي رسّخها التعايش مع الظلم!
إن الصبي الذي ولد داخل السجن، يعاني معضلة تكون عالم الأفكار داخل حدود ومحددات منظومة السجن، وإنه يحتاج الوعي الذي يريه العالم الحقيقي، إنه سيواجه الحقيقة التي غيّبها عنه السجان، مهما كانت في البداية غريبة، لكنها الحقيقة، وإن الاستبداد والاحتلال يدركان جيدًا خطورة وعي الجماهير، خطورة اكتشافهم المهزلة، والعالم الحقيقي الذي حجبته عنهم الحياة داخل أسوار عقلية السجين.
آن للصبي أن يتحرر
وللأمة أن تستيقظ!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر : موقع تبيان
(*)من قصيدة حين يصحو الشعب، للشاعر عبد الله البردوني.