ثقافة وفكر
أخر الأخبار

من ع الرصيف بحكي (حكايتنا مع الشارع وناسه وأوغاده)

كريم الشاذلي
كريم الشاذلي

1. الرصيف مدرسة الخبرة والتجارب

بدأت حكايتي قديمًا على الرصيف. ليس وقوفًا على الناصية، فأنا لست تربية شوارع، بل تربية رصيف. على هذا الرصيف، قابلت جميع خلق الله.

  • مُعاشرة النصّابين: عاشرتُ النصّابين. يا له من سحر يتمتع به المحتال! لولا أن لديّ قليلًا من الضمير، لكنتُ أصبحتُ نصّابًا بارعًا، ولولا أن النصب يؤذي الناس ويغتال نفوسهم، لكنت أعجبتُ بمهنة النصب.
  • نموذج من الرصيف: أتذكر أنني عرفتُ نصابًا لا يعرف القراءة ولا الكتابة، منذ حوالي 30 عامًا، وكان قد اختلق لنفسه لقب “مُخترِع”، وصنع بطاقة عمل بهذا اللقب. كان يرتدي نظارة “راي-بان” وحقيبة جلد إيطالية، وبدلات من “بيير كاردان”. عندما قُبض عليه بعد سنوات، اكتشفوا أنه يرفض التوقيع على المحضر لأنه يبصم (يستخدم بصمة إصبعه). ضحايا هذا الرجل كانوا من حملة الشهادات الجامعية ومن “الكبَار”، وهو كان يبصم. هذا نموذج لما ستراه على الرصيف؛ أشياء يستحيل أن تقرأها في كتاب، أو تشاهدها في فيلم، أو حتى تخطر على بالك.

2. قدسية الكلمة وقسوة الاختبار

الرصيف هو كاتب سيناريو. القصص التي في السينما هي حكايات “منزوعة الدسم” مقارنة بما يمكن أن تشاهده على الرصيف.

  • لغة السوق: الشارع له لغته، والسوق له لغته. والكلمة في لغة السوق لها قدسية تفوق أي كلمة أخرى. أمان الدنيا وزوالها مرهون بالكلمة على الرصيف. الكلمة على الرصيف أهم من النقابة وأهم من القانون.
  • قانون الرصيف: سنجد على الرصيف جميع الأشكال والألوان، وسنتعلم وسنتعرض للمتاعب، خاصة وأن “القانون على الرصيف لا يحمي المغفلين”.
  • الاختبار الحقيقي: على الرصيف، يتم اختبار ما تعلمته في المدرسة والبيت والكتب. السقطة (الوقعة) ليست مجرد خيبة، بل تُقوّمك بشدة؛ لأنه ليس لديك خيارات. لا أحد يبكي على الرصيف، وجرح الرصيف (خربوشها) يُعَلِّم ويُركّز المعلومة.

3. الاستراتيجية الحقيقية.. كما يراها “فريدمان” والرصيف

الكتب علّمتني كيف أبني رأيي، لكن الشارع علّمني كيف أصقله عمليًا. شعرتُ أن الكثير من الكتب التي قرأتها كان كاتبها قد جاء من على الرصيف أو فهم الرصيف جيدًا.

  • كتاب “الاستراتيجية”: كنت أقرأ كتابًا مهمًا في علم السياسة وإدارة الكيانات الكبرى اسمه “الاستراتيجية”، للكاتب لورنس فريدمان. الكثير من الأمور التي قالها توافقت مع ما علّمني إياه الرصيف.
  • جوهر الاستراتيجية: الاستراتيجية ليست أوراقًا ولا خططًا ولا جداول. ليست قراءة للغيب ولا استشرافًا للمستقبل، هذا جزء بسيط منها. ولكن جوهرها هو أن تبقى مُسيطرًا.
  • التعامل مع الفوضى: الاستراتيجي الحقيقي هو من يعرف كيف يفكر في المجهول، وكيف يتصرف عندما تسوء الأمور (تعكّ). ليس المهم ما خططت له، المهم كيف ستتعامل مع الأزمة أو المأزق الذي قد تجد نفسك فيه. هذا هو الاستراتيجي الذي ربّته التجربة وصقلته المواقف. الاستراتيجي ليس الذي يتنبأ بالمستقبل، بل الذي يكون جاهزًا للتعامل مع أي مستقبل.

4. صفات “ابن الرصيف” الاستراتيجي

يقول فريدمان إن أول صفات الرجل الاستراتيجي، أو “ابن السوق”، هو أنه يؤمن بأن:

  • فهم الواقع: فهم الواقع كما هو عليه، لا كما يتمنى أن يكون. لا يبني على الأماني، بل على الحقيقة، مهما كانت قاسية ومؤلمة.
  • المرونة والثبات: هو مستعد دائمًا لمواجهة الواقع والتفاوض معه. لديه مرونة في الحركة مع ثبات في الجذور، بمعنى أن لديه مبادئ وكرامة خارج نطاق المساومة.
  • الولادة من الصراع: الاستراتيجية تُولَد من الصراع، والخبرة تُولَد من المواقف. “الضربة التي لا تكسر تقوّي”. هذه الضربات والجروح هي التي صنعت منا شيئًا.
  • التكيف لا القوة: في لحظة ما ستنهار خططك وتوقعاتك. الذي ينجو، ليس الأقوى، بل الأذكى في التكيف. ابن الشارع وجهه يحكي قصصًا، وهو متكيف، لأنه يؤمن بالمثل الذي يقول: «هتروحي فين يا شمس من على قفل فلاح». ابن الرصيف ليس لديه رفاهية الرفض أو الاكتئاب.

5. الاستراتيجية هي البشر

نقطة أخرى ذكرها فريدمان، هي: “لا توجد استراتيجية من دون بشر.” فالأوراق والأرقام ليست أقوى من البشر، ولن تستطيع تحليل مشاعرهم ومصالحهم وخوفهم وطموحهم.

  • فهم النفوس: الاستراتيجي الحقيقي يجب أن يفهم الناس ونفوسهم قبل أن يمر على الأوراق والأرقام. لهذا السبب، ستجد أن من تعلم على الرصيف هو أفهم في الكرة وفي الدين وفي السياسة من كثير من المتصدرين وأصحاب الألقاب في التلفزيون؛ لأن هذه الأمور تخص البشر، ومن يفهم البشر يُديرها.
  • التعامل مع “الغشيم”: ابن السوق يعرف أن الدنيا فيها “غشَمَة” (حمقى/المتهورون). كما قيل في الأفلام: “إبراهيم لا يخاف إلا من الغشيم، إما أن يموتك وإما أن يضطرك لقتله، وستكون خاسرًا في الحالتين”.
  • الخيال والواقع: الرجل الاستراتيجي يعيش بقدم في الواقع وقدم في الخيال. يرى الصورة الكبيرة، وفي الوقت نفسه يُركّز مع التفاصيل. هو يلعب الشطرنج: حركة تحكمها خطة. هذه الصفة تجدها عند “العَلّيوي” (الأكثر شأنًا/مرتبة) من أولاد السوق؛ جزء منه يتفرّج على الدنيا والناس، ويرى دوران الزمن، فيتأمل ويتخيل، ثم يعود ليعيش ويتعامل ويحلل ويربط.

6. العب بالزهر الذي يأتيك

نحن على الرصيف يا صاحبي، قليل منّا من يلعب الشطرنج. نحن نلعب إما “الطاولة” (النرد) أو “الضّومِنَة” (الدومينو). وكلاهما علّمنا أنك لا تختار الورق، ولا تعرف ما سيأتي به “الزهر” (النرد).

  • المرونة والقبضة: اللاعب يلعب بأي زهر يأتيه، وقبضتك (ماسكة إيدك) هي التي ستظهر مدى ثباتك ومرونتك.
  • الخلاصة: فريدمان يقول لك: افهم الواقع، لا تُغيّره. والرصيف يقول لك: العب بالزهر الذي يأتيك.
  • التعريف الأشمل: الاستراتيجية تحولت من فن قيادة الجيوش إلى فن توجيه الفعل الإنساني وسط الفوضى. خلاصة فكر فريدمان عن الإنسان الذي يحاول أن يعيش بعقل منظم وسط عالم فوضوي.
  • الخاتمة: الاستراتيجية هي الوعي لحظة العاصفة، هي فن أن تظل قادرًا على الفعل حين يبدو أن كل شيء خارج عن السيطرة. هذا ما علّمتنا إياه الدنيا، وأسقانا إياه الرصيف.

وختامًا، يقول الرصيف على لسان عمنا يوسف شتا:

«من قبل تشيل الحمول يا ابن الأصول حاوي، وضروري تاخد الحذر خلي النظر حاوي، وابعد عن اللي في نفسه للشرور حاوي…

الحُرّ دايماً يزيّن اللحية والشارب لأنه مقبول ومن كاس الأصول شارب، يا معاشر الدون يلّي من المرار شارب، ده اللي عاشر العقارب يشتغل حاوي».

المصدر: https://youtu.be/nd4RYbMJugU?t=104

زر الذهاب إلى الأعلى