كيفَ تطحنُ الآلة العسكريّة في شعبٍ أعزلَ على مدى أربعمئة يومٍ ويبقى أهلُها على قيد الوجود؟ إنّ حريقًا واحِدًا شَبّ في روما أيّام نيرون قضى على أكثر من عشرة أحياء في روما من أصلِ أربعةَ عشرَ حَيًّا ودمّر كلّ ما فيها ومَنْ فيها.
ليسَ صمودًا اختِيارًا وإنْ كان في بعضِه كلك عندَ المُؤمنين بالأقدار السّماويّة، ولكنّه صمودٌ اضطراريّ، وخطبٌ أُلجِئ إليه أهل غَزّة، ونازِلة هبطتْ عليهم صاعقةً لو هبطتْ بسِواهم لجعلتْ أمر وجودِ مُخبِّر واحدٍ منهم ضَربًا من الخَيال.
أربعمئة يوم من التّجويع الّذي نَدَر أمثالُه في التّاريخ، التّجويع المُمنهَج الّذي يُبقي على خيطِ الحياة الرّفيع من أجل مزيدٍ من الحسرة على الحال، ولعلّ بعضَ الّذين رَقّتْ جلُودهم وضمرتْ بُطونهم ووهنتْ عِظامهم يتمنّون لو أنّهم غادروا هذه الحياة إلى الحياة الأخرى لكان وطءُ المُصيبة أقلّ، ولَكان في ذلك راحةٌ من نوعٍ ما. الجوع الّذي يأكل العيون، ويُطفِئ نورَها، ويمتصّ رحيقَ الحياة من الورود اليابِسة حتّى يذوي الطّفل بين يدَي أبيه، وهما يَرَيَان شُعاع الحياة ينسحبُ عميقًا في غَوْر تلك العينين، ولا يستطيعان فِعْلَ شيء.
أربعمئة يومٍ من الذّبح ولا أقول القتل، فالقتل يكونُ هيِّنًا أمام صورةِ الدّم الّذي تضجُّ به الطّرقات، والأشلاء الّتي تتناثَرُ فوقَ الأشجار وتتدلّى من تحتِ أعمدة الكهرباء، وتسقطُ من فوقِ الشّرفات، ويغرقُ كلّ شيءٍ في ظلامٍ سديميّ مُخيف، وكأنّ وحشًا هائِلاً يفوقُ حجمُهُ حجمَ الكرة الأرضية من أطرافها السّتّ قد سَحَقَ بأقدامه العملاقة هذا الجزءَ الصّغير المنزوي من الكُرة المُسمّى (غَزّةَ) فخلطَ شجرَها بحجرها ببشرها وعادوا عجينًا واحِدًا لا يُدرَى فيه شيءٌ ولا يُتَبَيَّن من كتلته جزء.
أربعمئة يومٍ من الخُذلان والتّثبيط والتّخوين، ولا أقول تُركِتْ غزّةُ وحدَها، فلو تُرِكتَ وحدَها لَكانتِ النّازلةُ أهونَ وإنْ كانت النّوازل لا يُتفاضَل بينها فهي صورة الموت الّذي لا يرحم، ولكنْ أقول إنّها أضافتْ إلى صحيفةِ مأساتِها مِنْ تركِها وحيدةً أنْ ولغَتْ كلابٌ من الجيران في دِمائِها، ونهشتْ مع النّاهِشين من لُحومها، وسَمَحتْ للبارِجات المُحمّلة بالرّاجِمات أنْ تمرّ عبرَها، وموّلَتْ قتَلَة غزّة، وأمدَّتْهم بالمال والسّلاح والطّعام، وكانتْ عونًا لكلّ بطّاش جَبّار حتّى يُثخِنَ في أهل غزّة ما استَطاع، وإنّها والله لَبلوَى لا تُطاق، وخطبٌ لا تُحتَمل فَدَاحتُه، وإنّنا وإيّاهم كما قال القائل:
لَقَدْ مُدَّتْ يَدٌ نحوي لِقَتْلي *** وَوَحشُ يدَيكَ ينهشُ في رِقابي
ولكنْ.. كيفَ تقول هي غزّةُ اليوم؟ كيفَ تصفُ ما ترى؟ إنّها صامِدة، وإنّها رُمحٌ في العيون، وإنّها ثورةٌ لا تُفَهم كأنّها سِرٌّ من أسرار الله، ولفظةٌ في الوحي السّماويّ لم يلفظْه سِواه لَها، كأنّ أهلها أُعِدّوا في الدُّنيا لِغَير ما تُعَدّ الشّعوب فوق الأرض من سِواها، وأُعدِّوا في الآخرة لغير ما أُعِدّ أحدٌ من البشر مثلهم؛ ابتِلاءٌ في الدّنيا وأجر عميمٌ في الآخرة، خوفٌ في الدُّنيا وطمأنينة في الآخرة، وإنّ لحظةَ طمأنينة واحدةٍ في الآخرة لتُنِسي أهلَ غزّة مجُتمِعين خوفَهم المُعتَّق المُخثّر كُلَّه في الدُّنيا، وإنَّ الله أرحمُ بهم من أنْ يجمعَ عليهم خوفَين، وإنّنا لا ندري ماذا يُرادُ بنا نحن الّذين نقفُ مُتفرِّجِين في الدُّنيا؛ أَأَمانُنا فيها هو أمانٌ هناك؟! وإنّ الله لا يجمع الشّيء على المرء مرّتين في عالَمَين، فإمّا خوفٌ هنا وأمانٌ هناك. وإمّا أمانٌ موهومٌ هنا وخوفٌ حقيقيٌّ هناك، ووالله إنْ لم يتدراَكْنا الله برحمته لنَهلَكَنّ!