*إدوارد سعيد
ما البداية، وأين، أو متى؟ إذا كنت قد بدأت بالكتابة، مثلا، وكان السطر قد أخذ مساره فوق الصفحة، فهل هذا هو كل ما حصل بالفعل، ذلك أنني في فعل التساؤل عن معنى «البداية» أبدو كأنني تميزت ملامح من الأهمية غامضة في موضع لم يكن يظن أنها توجد فيه من قبل.
يقترح ليفي – شتراوس (C. Levi Strauss) أن تكوين منطق العقل لا يسمح أبدًا بإيضاح المبدأ الذي يقوم عليه تصنيف ما بشكل مسبق، وإنما يتم اكتشاف هذا المبدأ استدلاليًا وفي مرحلة بعدية، أضف إلى ذلك أن اللغة، وهي على ما يبدو أكثر الأدوات التي يستعملها الإنسان في عملية التصنيف تأثيرًا، ليست في رأي ليفي شتراوس إلا إجمالا لا تأمليًا للعقل الإنساني له منطقه الخاص الذي لا يعرف الإنسان عنه شيئًا.
إن تحديد نقطة ما بأنها بداية يعني تصنيفها بعد ظهورها، حتى إذا لم يكن هذا، كما سأحاول أن أوضح، يعني بالضرورة أن استعمال الإنسان للغة في دراسة البدايات عمل عقيم، ومع ذلك فإننا كثيرًا ما نتجاوز البداية ونخلفها وراءنا، فنصبح في تأملنا موضوع البداية مثل السيد جوردان عند موليير، إذ نكتسب احترامًا متأخرًا لما كنا دائمًا نفعله في مجرى حياتنا اليومية بصورة عادية جدًا، ولا يبدو تصنيف شيء ما بداية أكثر أهمية من ذي قبل إلا الآن، ونحن نتساءل عن موضوع البدايات، ونجد أنفسنا نرد بالقول إننا نعرف الآن كما عرفنا دائمًا كيف نبدأ، سواء أكان ذلك في مجال الكلام أو الشعور أو التفكير أو القيام بعمل معين بدلا من آخر، وإننا سنعرف دائمًا كيف نبدأ، إذا كانت هذه هي البداية فإن هذا هو ما نفعله.. متى؟.. أین؟.. كيف؟.
إن تركيب الجملة المفسرة لمعناها والقائلة إن أحدنا يبدأ عند البداية، يعتمد على قابلية كل من العقل واللغة على أن يعكسا نفسيهما، ويتحركا من الحاضر إلى الماضي ثم إلى الحاضر ثانية، من وضع معقد إلى بساطة سالفة ثم إلى التعقيد من جديد، من نقطة إلى أخرى، كأنهما يتحركان داخل دائرة، والقدرة على القيام بمثل هذه الأشياء هي ما يجعل الفكر مفهومًا وقريبًا من حافة الغموض في الوقت نفسه، من الواضح أننا نعرف معنى أن يبدأ المرء، فما الذي يقودنا إلى الشك بهذا اليقين بتذكير أنفسنا بأنه، في عالم الفكر، ليست البداية في الواقع لعبة المبتدئ؟.
نحن نسخر من المفكر الساذج الذي يمضي قدمًا ليدعي إمكانية قلب ترتيب الكون بسرعة بعد أن يكتشف أن الفكر يمكن أن يعكس نفسه.. ومع ذلك فإننا لا نتردد في التأكيد أحيانًا على مثل هذه المعكوسية لنبرهن على صحة نقطة ما، أو لنتحرك في اتجاه آخر.. إن ثوريًا مثل لينين يمتلك حساسية خاصة تجاه الشيوعية اليسارية؛ لأنه يعرف أن المعكوسية يمكن أن تكون قوة ومبدأ لا رغبة مطلقة فقط أو صياغة شعارات وثمة مفكر آخر هو: جوناتان سویفت، يعتقد أن كلا من اللغة والسياسة أمرين قابلين للعكس مما يجعله يشعر، شأن لينين، بحقه في الحكم على عملية عكس معينة بأنها واقعية أو غير واقعية..
فالمخططون في الكتاب الثالث من رحلات غليفر (Gulliver›s Travels)، الذين يشيدون بيوتًا بدءًا من السقف يعيشون في عالم خيالي من المعكوسية، لكن من يقدر على منافسة سويفت المؤلف العنيد في كتاباته السياسية وفي إصراره على أن قراءة يجب أن يروا الأمور بوضوح تام منذ البداية.. أي أنه أراد عكس الاتجاه الهدام نحو الحرب في السياسة الأوروبية والنمو السرطاني للألفاظ الجديدة واللهجات الخاصة في اللغة الإنكليزية.
إن الميزة الخاصة الرحلات غليفر من ناحية البدايات والمعكوسية هي أن سویفت يبدو كأنه صمم الكتاب مجموعة من التجارب في الاتجاهات المتحولة.. لقد فعل هذا كما لو كان يسأل نفسه ما الذي سينتج مثلا عن تبديل أبعاد الإنسان من أبعاد عادية إلى صغيرة جدًا، أو من أبعاد صغيرة إلى عملاقة، أو من إنسانية إلى حيوانية، وبينما تكتفي معظم كتب اليوتوبيا المدينة الفاضلة بتبديل واحد أو بداية جديدة واحدة أو عملية عكس واحدة فإن رحلات غوليفر لا تكتفي بهذا، مما يجعلها ذات ميزة خاصة في سياق بحثنا الراهن، فالرحلة الثالثة لا تدور حول اتجاهات مغيرة (كما هو الحال في أمكنة مثل ليليبت (Lilliput) ويروينغناغ (Brobdingnag)، وغنملاند (Houghnknmland)، بل حول تغيير الاتجاهات بصورة مستمرة كطريقة للحياة.
من هنا التأثير التشذيبي الغريب على غليفر لرؤيته للسترولدبر وغز (Struldbrugs) المخلوقات التي يؤدي كونها غير فانية إلى عكس الهدف الفاني للحياة الإنسانية إلى الأبد بإلغائه نهائيًا، مما يحيل الحياة إلى نوع من البداية الدائمة التجدد، لكن سويفت يركز معظم تجاربه التي لا تكبح في عملية عكس الأمور في أكاديمية لاغادو (Academy of Lagado)، كان أول رجل رأيته هزيلا، يغطي السخام وجهه ويديه، ذا لحية وشعر طويلين، أشعث الرأس محروقًا في أمكنة عدة، أما ثيابه وقميصه وجلده فكانت كلها ذات لون واحد، وكان قد أمضى ثماني سنوات يحاول استخراج فاصوليا الشمس من الخيار ليضعها في قوارير محكمة السد، ثم يطلقها لتدفئ الهواء في فصول الصيف القاسية الفجة، ثم دخلت حجرة أخرى لكنني سرعان ما أردت الخروج منها لأن رائحة كريهة مرعبة كادت تخنقني، غير أن مرشدي دفع بي إلى الأمام وناشدني هامسًا أن لا أسيء التصرف.
وكان المخطط في هذه الزنزانة أقدم تلامذة الأكاديمية، وكان عمله منذ دخوله الأكاديمية هو محاولة إعادة براز الإنسان إلى الطعام الأصلي الذي نتج عنه؛ وذلك بالفصل بين أجزائه المختلفة، وإزالة الصبغة التي يكتسبها من الصفراء، بحيث تتبخر الرائحة الكريهة وتزال نفايات اللعاب.
1978*
* ناقد وأكاديمي فلسطيني/ أمريكي «1935 – 2003»