يُقدم الروائي اليمني أحمد زين في روايته الجديدة “رماية ليلية” صورة حية عن معاناة اليمني في زمن الحرب والمنفى، ويرتحل في أعماق شخصياته، ليكشف عن تعقيداتها وصراعاتها في مواجهة واقعها الجديد.
يبدأ الكاتب بتقديم لوحة متشابكة من الشخصيات الناجية من الحرب، يتمحور سرده حول الحياة اليومية في أوضاع لا تخلو من القسوة والتحدي، وتراه يستخدم تفاصيل دقيقة لأماكن تنقلات الشخصيات ولتفاصيل حياتها اليومية بأسلوب يجعل السرد واقعيا ومؤثرا.
تساؤلات عميقة
يركز صاحب “حرب تحت الجلد” على تأثيرات الحرب الدموية والفساد السياسي على الفرد والمجتمع، ويصف مشاعر الخسارة والخذلان التي تعصف بالشخصيات، والتي تجعلها تسعى جاهدة لاستعادة هويتها المفقودة في عالم مضطرب ومشحون بالتعقيدات السياسية والاجتماعية.
الرواية تعكس تناقضات الحياة في ظل الأزمات الكبرى، حيث تتداخل الحروب والسياسة مع تفاصيل الحياة اليومية البسيطة
يصوّر زين مشاهد الحرب بواقعية قاسية، ويقدم صورة قاتمة عن الحرب والعنف، يظهر تأثيرهما المدمر على حياة الناس، بطريقة تثير مشاعر القارئ وتدفعه إلى التأمل في قسوة الحرب وآثارها الكارثية.
تطرح الرواية، الصادرة مؤخرا عن منشورات المتوسط، تساؤلات عميقة عن الهوية والانتماء في أزمنة الحرب والمنفى، وتقدم تأملات فلسفية عميقة حول معنى الحياة والموت، وتُجسّد رحلات الخروج من اليمن، حيث تُشكل تجربة المنفى أحد المحاور الرئيسة، إذ يُحاول الأبطال بدء حياة جديدة بعيدا عن الحرب والدمار، لكنهم يواجهون صعوبات في التأقلم مع الواقع الجديد، ما يُضاعف من مشاعرهم بالغربة والضياع.
يثير عنوان “رماية ليلية” العديد من التساؤلات منها: هل هو بحث عن الانتقام من الذات والأخ الشريك المُستعدى في الظلام؟ هل يرمز إلى الصراعات الداخلية في العتمة؟ هل يشير إلى تخبط في الرؤية والاستهداف والرماية في الوقت نفسه؟ هي صراعات بين الخير والشر، الضوء والظلام، الحق والباطل؟ هل يرمز إلى السلطة وكيفية ممارستها وتخبطها في ظلام الليل؟ ألا يختلط في حالات الرمي الليلية الحابل بالنابل فتضيع التفاصيل وتتشوه؟
يستهل أحمد زين روايته برحلة داخلية للراوي، حيث يُعيد استرجاع ذكريات الماضي المؤلمة، وصراعاته الداخلية والخارجية في ظل الحرب الدائرة في بلده. تجسد هذه الذكريات مشاعر الخوف واليأس والألم التي يعاني منها الراوي الذي يُواجه أسئلة وجودية حول مصيره ومستقبله، بينما يُحاول إيجاد معنى لوجوده في عالم مليء بالمعاناة والظلم.
صراعات داخلية وخارجية
يصور صاحب “ستيمر بوينت” شخصيات مُعقدة ومتعددة الأبعاد تعكس الواقع المعيش في زمن الحرب. من خلال هذه الشخصيات، يلتقط تفاصيل دقيقة، ويناقش قضايا إنسانية عميقة مثل الهوية والانتماء، والحب والكراهية، والحياة والموت.
الشخصية الرئيسة في الرواية هي راو يعاني من صراعات داخلية وخارجية متعددة. يظهر كشخصية معقدة تعاني من ألم جسدي ونفسي، ويتنقل بين مشاعر اليأس والارتباك. تبرز من خلاله قدرة الكاتب على التعبير عن الحالة النفسية المضطربة بأسلوب لافت.
تظهر فايزة كشخصية ثانوية ولكنها مهمة ومحركة للأحداث في النص، حيث تستكشف ما يعج به الواقع، وتمثل جوانب من الحياة العادية التي تتأثر بالأحداث العنيفة المحيطة بها. وليلى بدورها شخصية أخرى مصاحبة لفايزة والآخرين، تعيش في ظل الصراع، وتحاول العثور على مخرج من خلال وسائل بسيطة ومباشرة.
ليلى، التي لم تتحرك كثيرا في المدينة الجديدة، وجدت نفسها تعيش مع عائلة تربطها بها علاقة بعيدة. هذا الوضع يعكس حالة العديد من المهاجرين الذين يضطرون للتأقلم مع بيئات جديدة ومواقف غير مألوفة. عدم امتلاك ليلى لسرير خاص بها يشير إلى حالتها الهشة وعدم استقرارها في مكان ثابت، ما يعزز شعورها بالغربة والانفصال.
لقاء ليلى بفايزة يشكل نقطة تحول في حياتها الجديدة. فايزة، التي تلتقي بها في لقاءات تهدف لحشد الدعم ضد الانقلاب، تمثل شخصية قوية وفعالة في المجتمع. على الرغم من أن ليلى لم تكن تربطها علاقة وطيدة بعائلة فايزة، إلا أنها سمحت لها بالمشاركة في شقتها، مما يدل على طبيعة العلاقات الاجتماعية التي يمكن أن تكون عابرة وسطحية لكنها تحمل تأثيرا كبيرا على الفرد.
يصور الكاتب كيف أنه رغم انشغال ليلى بمهام العمل، إلا أن تفكيرها يتشتت في تفاصيل مثل استعداد الضيوف لبرنامجها الإذاعي وتذكرها للمواقف السابقة حيث فشل الضيوف في الاتفاق على رواية واحدة للأحداث. هذا التشتت يعكس حالة الاضطراب الداخلي وعدم القدرة على التركيز، والتي قد تكون نتيجة الضغوط النفسية والاجتماعية المحيطة بها، حيث صور زملائها وزميلاتها تلوح من وراء جدران الزجاج، مغبّشة وغير واضحة، ما يعكس إحساسها بالعزلة وعدم الوضوح في علاقاتها مع زملائها.
يعكس صاحب “فاكهة للغربان” تناقضات الحياة في ظل الأزمات الكبرى، حيث تتداخل الأمور الكبيرة مثل الحروب والسياسة مع تفاصيل الحياة اليومية البسيطة. كما يظهر كيف أن الأشخاص يحاولون التأقلم بطرق مختلفة؛ فبينما تجد فايزة ملاذها في التفاصيل اليومية، تغرق ليلى في مخاوفها وقلقها من المستقبل المجهول، وكيف أن الصراعات الداخلية تؤثر على قراراتها وتفكيرها، ما يجعلها كذلك شخصية مفعمة بالتناقضات.
يعبّر الراوي عن إحساس ليلى بالإحباط والاستياء من الوضع الذي تجد نفسها فيه، حيث يحيط بها أشخاص يدّعون القدرة على تحقيق تقدم في جبهات معينة، بينما يقضون وقتهم في التنقل بين الفنادق والمولات والمطاعم، بعيدا عن الواقع الحقيقي للميدان. في ذات الوقت، يتخذ هؤلاء الأشخاص مواقف غامضة وغير واضحة، مما يزيد من شعورها بالضياع والتشوش.
يستعرض الراوي تجربة ليلى وفايزة داخل المولات الكبيرة، ويعبّر عن ردود فعلهما المختلفة تجاه هذه البيئة الاستهلاكية. يعبر عن ذلك باستخدام لغة غنية بالوصف والتفاصيل الحسية، ما يعزز من تأثير الأماكن المزدحمة والمليئة بالمنتجات. ليلى تبدو متفاجئة ومتأملة، في حين أن فايزة تبدو مرتاحة وملمة بالتفاصيل الدقيقة للملابس والإكسسوارات.
نقد لاذع لراهن اليمن
يعتبر العنف واليأس من الموضوعات المركزية في “رماية ليلية”. يصف زين مشاهد العنف بتفاصيل دقيقة، مما يعكس عمق الألم والمعاناة التي تمر بها الشخصيات. يتناول تأثير العنف على النفس البشرية وكيف يمكن أن يؤدي إلى حالة من اليأس والانهيار.
يعاني الراوي من صراعات نفسية معقدة، تظهر من خلال تأملاته ومشاعره المتضاربة. هذا الصراع يعكس القضايا الإنسانية العميقة التي يعاني منها الأفراد في مواجهة الظروف القاسية. ولا يتجاهل الأبعاد التاريخية والسياسية في عمله، بل يرسم بين السطور نقدا لاذعا للأوضاع الراهنة في اليمن بشكل عام.
رغم الأجواء الكئيبة التي تسود الرواية، إلا أن هناك تلميحات للأمل والبقاء. يحاول الراوي، من خلال التفاصيل الصغيرة مثل تنظيف وجه الشخص المهاجم، أن يحافظ على جزء من الإنسانية والأمل في خضم العنف واليأس. تعكس هذه المحاولات البسيطة رغبة الشخصيات في العثور على معنى وقيمة لحياتهم رغم الظروف الصعبة.
يصف الكاتب صور دمار وخراب، حيث تُرى بيوت مهدمة وحيوانات نافقة ومسلحون يرفعون أسلحتهم. هذه الصور تعكس حالة الفوضى والعنف التي تسيطر على المشهد، وهي تتناقض بشكل صارخ مع الصورة التقليدية للعشيرة ككيان متماسك ومحافظ على القيم، وتخلق لدى القارئ إحساسا بالرهبة والتوتر، مما يعكس الأثر النفسي للعنف والصراع على الأفراد والمجتمعات.
الذاكرة وتعارض الأجيال
شيخ القبيلة المنفي يظهر احتجاجه على الأسلوب الحديث للثأر كرمز للمحافظة على القيم العشائرية. تعكس كلماته فلسفة قديمة ترى في القتل في الحرب شرفا وفي الثأر واجبا يجب أن يتم وفقا لأعراف معينة. يؤكد الشيخ على أن هناك فرقا بين القتل في الحرب والقتل ثأرا، ويشير إلى أن القتل للمحارب أيسر من القتل لمن يأخذ بثأره. هذا يسلط الضوء على تعقيدات الشرف والعنف في الثقافة العشائرية.
تتجلى في حديث الشيخ قيم العشيرة ومواثيقها. يتحدث عن ضرورة احترام جثمان العدو حتى بعد الثأر، مما يعكس التقاليد العريقة التي تحث على احترام الكرامة الإنسانية حتى في أحلك الظروف. إن حديثه عن سحب الجثمان برفق إلى الظل إذا كانت الشمس تطاله، يعكس رمزا للرحمة والإنسانية التي تحكم حتى أفعال الانتقام.
يعكس التناقض العميق بين ماضي الشيخ القوي وحاضره الضعيف، ويستكشف هذا التباين من خلال السرد الدقيق لشخصيته وتفاعلاته مع الآخرين، وخاصة فايزة. يتعمق في فهم التحولات التي طرأت على شخصية الشيخ وتأثيراتها على حياته وعلاقاته.
في الماضي، كان الشيخ يتمتع بنفوذ كبير وسلطة مطلقة في مجتمعه. يمتلك سجنا خاصا به ويستطيع إبطال قرارات حكومية، ممّا يعكس مدى قوته وهيمنته. كانت شخصيته العنجهية والمتسلطة تعطيه مكانة خاصة، حيث كان قادرا على التأثير في مجريات الأمور بشكل حاسم. هذا الجانب من شخصيته يعكس القوة التقليدية للعشائر وقادتها في المجتمعات القديمة.
التحول الكبير في حياة الشيخ يبرز من خلال فقدانه للسلطة والنفوذ. لم تعد لديه القدرة على إسماع صوته أو التأثير في من حوله، مما يعكس تدهور مكانته وقوته. هذا التحول يسبب له إحساسا بالعار والخوف، حيث يشعر بأنه أصبح شخصا مغمورا بعد أن كان قويا ومؤثرا. وهذا التغير يعكس التحديات التي تواجه القادة التقليديين في مواجهة التغيرات الحديثة والمجتمعية.
العلاقة بين الشيخ وفايزة تظهر تباينا في الاهتمامات والأولويات، وتسلط الضوء على الفجوة بين الأجيال والقيم. فايزة، التي تبدو مشغولة بأمور أخرى، تمثل الجيل الجديد الذي ربما لا يشارك نفس الالتزام بالقيم القديمة، وهي تبدو غير مهتمة بحكايات الشيخ، وتعتبرها مجرد قصص مسلية، مما يعكس التغيرات الثقافية والاجتماعية التي تحدث في المجتمعات التقليدية.
هذه العلاقة توضّح الصراع بين الجيل القديم الذي يحاول الحفاظ على القيم التقليدية والجيل الجديد الذي ينظر إلى هذه القيم بشكل مختلف.
يتناول الكاتب موضوع الذاكرة وكيفية تأثيرها على النفس. تظهر شخصية الراوي وهي تقلّب صفحات كتاب قديم، مما يعكس محاولة للبحث في الماضي واستعادة الذكريات. لكن هذه الذكريات ليست تحت السيطرة الكاملة للشخصية؛ إذ تتدخل “قوة غير مرئية” تجبره على مواجهة أحداث من الماضي قد لا يرغب في تذكرها. هذا التوصيف يعكس الصراع الداخلي للشخصية مع تجاربها الماضية، ويبرز فكرة أن الذاكرة ليست دائما خاضعة لرغباتنا الواعية.
خسارات الحرب
الحرب في “رماية ليلية” ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي تجربة شخصية عميقة، تركت ندوبا نفسية عميقة. عدم قدرة الراوي على تذكر ما هو في حاجة ماسة إلى تذكره يبرز الأثر النفسي العميق للحرب التي لم تكتفِ بإلحاق الضرر الجسدي بل تجاوزته إلى تشويه الذاكرة.
وفي هذا السياق، يمكن القول إن الحرب مثلت نقطة تحول في حياة الراوي، بحيث لم تعد ذاكرته تعمل بالشكل الطبيعي، بل أصبحت انتقائية، تستحضر فقط ما لا يرغب في تذكره.
يعبّر الراوي في النهاية عن حالة من الألم واليأس والشعور بالعجز أمام القدر. يشير إلى أنه لم يكن له الخيار في كونه في هذا الوضع، وأن أحلامه قد تلاشت بعد أن خاض تجربة الحرب.
تأملاته تعكس محاولات عبثية لتغيير مصيره، حيث يرى نفسه بعد سنوات كجسد فقط، بلا روح أو حياة، ينظر حوله فلا يرى أحدا. يتصور أنه خسر كل ما كان يخصه، ويطارد أشياء لا يمكن الحصول عليها ولا يمكن الوصول إليها.
العرب