إلى أخي البصام:
السلام عليكم ورحمة الله، وبعد، فَقَدْ رأيتُكَ تستغرب هذه التحيَّة المبارَكة[1] التي يُهديها الرجل إلى أخيه، وأتاك هذا الاستغرابُ مِن أنَّ قومًا زعموا أنَّ (القاعدة): هي أن نبتدئ الكتابَ بـ(سلام عليك أو عليكم)، بدون (أل) التعريف، فإذا جاء الختام، قلنا: “السَّلام عليك أو عليكم”، وأنَّ بَدء الكتاب بقولنا: “السلام عليكم” خطأٌ شائعٌ في هذه الأيام… إلخ.
واستدللتَ بقول الله – تعالى – في كتابه الكريم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ ﴾ [الزمر: 73]، وقوله – سبحانه -: ﴿ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ﴾ [الذاريات: 25]، في أكثر من ثلاثين موضعًا على وجوه مختلفةٍ، وصَدَق الله الذي يقول في سورة مريم: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا ﴾ [مريم: 33]، بـ (أل) التعريف، وصَدق الله الذي يقول في سورة طه لموسى وهارون: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]، بـ (أل) التعريف – أيضًا – فلا تستغرب يا سيِّدي! ولا تستغرب أيُّها السيد الكريم إذا علمتَ أنَّ أهلَ القِبلة جميعًا كانوا ولا يزالون، وسيظلُّون إلى آخِرِ الدهر، يقول الرجل منهم إذا انتهى مِن سجوده وقعد للتشهُّد: “السلام عليك أيُّها النبي، ورحمة الله وبركاته”، ولا تستغرب إذا أنت قرأتَ في “صحيح البخاري” في باب ما يُتخيَّر من الدعاء بعد التشهُّد ليس بواجب: حدَّثنا مُسدَّد، قال: حدَّثنا يحيى، عن الأعمش، حدَّثني شَقيق، عن عبدالله، قال: “كنَّا إذا كنَّا مع النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – في الصلاة، قلنا: السَّلام على الله مِن عباده، السلام على فلان وفلان، فقال النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تقولوا: السَّلام على الله؛ فإنَّ الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيَّات لله، والصلوات والطيِّبات، السلام عليك أيُّها النبي، ورحمة الله وبركاته، السَّلام علينا وعلى عِباد الله الصالحين – فإنَّكم إذا قُلتُم، أصاب كلَّ عبدٍ في السماء، أو بيْن الأرض والسماء – أشهد ألا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا عبده ورسوله، ثم يتخيَّر من الدُّعاء أعجبَه إليه فيدعو))”، وكذلك في باب التشهُّد في الآخرة مِن “صحيح البخاري”.
ولا تستغرِبْ يا سيِّدي – أيضًا – إذا مرَّ بك وأنت تقرأ في “مسند أحمد بن حنبل” (ج4/ ص 439) من حديث عمران بن حصين: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – فقال: السلام عليكم، فردَّ، ثم جلس، فقال – يعني رسول الله -: ((عشْرٌ، ثم جاء آخَر، فقال: السَّلام عليكم ورحمة الله، فردَّ، ثم جلس، فقال: عشرون، ثم جاء آخَر، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فردَّ، ثم جلس، فقال: ثلاثون)).
أقول: يعني رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: عشر حَسَنات، وعشرين حسنة، وثلاثين حَسَنة، وكلُّ ذلك بـ (أل) التعريف أيضًا.
ولا تستغربْ يا سيِّدي إذا رأيت في مادة (سلم) مِن “لسان العرب”: “ويُقال: السلام عليكم، وسلام عليكم، وسلام بحذْف عليكم، ولم يرد في القرآن غالبًا إلا مُنكَّرًا، فأمَّا في تشهُّد الصلاة، فيقال فيه مُعرَّفًا ومُنكَّرًا، وكانوا يَستحسنون أن يقولوا في الأول: سلام عليكم، وفي الآخر: السلام عليكم، وتكون الألف واللام للعهْد؛ يعني: السلام الأول”.
ومن هنا أتى مَن لا يُحسن العربيَّة، وقلَّ اطِّلاعُه على كُتِبها وفِقْهها – والاستحسان هنا مُنْصَبٌّ على ما كان في التشهُّد – فإنه كما ترى عَنَى بالأوَّل ما كان في التشهُّد، وبالآخر السَّلام الذي يُخرِجُ من الصلاة، وهذا شيءٌ قال به بعضُ فقهائنا وأئمتنا، استحسنوا من عند أنفسهم، أو ممَّا روَوا.
ولا تستغربْ يا سيِّدي إذا وقفتَ يومًا على قول الأخفش: “ومِن العرب مَن يقول: سلام عليكم، ومنهم مَن يقول: السلام عليكم، فالذي ألحقوا الألف واللام حملوه على المعهود، والذين لم يلحقوه حملوه على غيرِ المعهود”، ثم عاد فقال: “وفيهم مَن يقول: سلام عليكم، فلا ينوِّن”.
ثم ذكر العِلَّة، فقال: “حمل ذلك على وجهين: أحدهما حذْف الزيادة من الكلمة كما يُحذف الأصل على نحو (لم يكُ)، والآخر أنه لما كَثُرَ استعمال هذه الكلمة، وفيها الألْف واللام، حُذِفَا؛ لكثرة الاستعمال، كما حُذِفَا مِن (اللهم)، فقالوا: (لُهمَّ)”، وكأنه جعل السلام عليكم بالتعريف هي الأصل الذي كَثُرَ استعماله.
فلا تستغربْ إذا نظرتَ فرأيتَ أنَّ الذي جاء في مقالتي ليس خطأً ولا مجاراةً على خطأ، ولا تستغرب إذا أنا قلت لك: إنَّ أدعياء اللغة إنما يُؤتَوْن مِن سوء التقدير لما يقرؤون، وممَّا انطوَتْ عليه قلوبُهم من حبِّ التعالُمِ على الناس بشيء يدَّعونه، ويلتمسون له الحُجَّة، حتى ما يدرك أحدهم فرْقَ ما بين (سلام عليكم)، (وسلام)، (وسلامًا)، كما جاءتْ في كتاب الله في أكثر من ثلاثين موضعًا، وبين ما جاء في كتاب الله أيضًا مِن قوله: ﴿ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى ﴾ [طه: 47]، وقول رسولِ الله الذي تلقَّاه المسلمون عنه في تشهُّد الصلاة وفي التحيَّة.
واعلم يا سيِّدي، أنِّي قنعتُ لك ولنفسي وللناس بالنقْل مُجرَّدًا، ولم أتبعه ببيان الفروق في المعاني، وما يَنبغي وما لا ينبغي، ولا تحرَّيتُ لك ولا للناس أن ألِجَ بهم موالجَ في دقيق العربيَّة وغامضها تدلُّ على أنَّ مَن نقلتَ أنتَ عنه هذا القول قد تمحَّل[2] وتهجَّم على ما لا عِلْمَ له به، وعلى ما لا يُحسنه ولا يُجيده!
فلا يغررْك التبجُّح بالعِلْم، ولا تقنعْ من المتحذلقين بما يسمُّونه: (القاعدة)، فلعلَّها باطلٌ مزوَّرٌ، وكَذِبٌ مُخْتَلَقٌ، واجتراءٌ على العربيَّة هي مِن سوآته براءٌ، ولعلَّ دليلَهم يكون هو الدليلَ على بطلان ما يَزعمون كما رأيت، وفي هذا مَقْنع وهدًى.
والسلام عليكم ورحمة الله.
ــــــــــــ
[1] – وذلك في مقاله: إلى الأستاذ الفاضل محمود محمد شاكر، الرسالة، العدد (658)، فبراير. [2] تمحَّل: سَعَى إلى الشيء، وطلبه، وتصرَّف فيه.المصدر: الألوكة