الولايات المتحدة وصناعة الفوضى!

يونس الديدي

منذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزة، اتخذت الولايات المتحدة موقفًا صريحًا يُظهر العداء للمقاومة الفلسطينية، مع تأكيد دعمها المُطلق لإسرائيل عبر توفير الغطاء السياسي والدعم العسكري، بما في ذلك تمرير مساعدات سلاح متقدمة، وحجب قرارات تدين الهجمات الإسرائيلية.

لكن القراءة الأعمق لهذا الموقف تكشف عن إستراتيجية أميركية متعددة الأبعاد، تسعى ليس فقط إلى حماية مصالح إسرائيل الأمنية، بل إلى إعادة هندسة التوازنات الجيوسياسية في المنطقة.

فمن جهة، تُدرك واشنطن أن القضاء على حماس أو الفصائل المسلحة لن يحقق استقرارًا طويل الأمد، خاصة مع تصاعد الاحتقان الشعبي الفلسطيني، وارتباط القضية بشرعيات سياسية ودينية عميقة.

لذلك، تعمل على تحجيم دور هذه الفصائل عبر آليات غير مباشرة، مثل تعزيز التعاون الأمني بين إسرائيل والدول العربية المُطـبِّعة معها، وتشجيع الحلول الاقتصادية المحدودة كبديل عن المطالب السياسية، ما يُضعف الرواية الفلسطينية الموحدة.

رغم التصريحات العلنية التي تؤكد رغبتها في القضاء على حماس، تدرك واشنطن أن تورطها المباشر في حرب ضد المقاومة لن يكون في صالحها، لا من الناحية العسكرية ولا الاقتصادية

ومن جهة أخرى، تتقاطع الإستراتيجية الأميركية مع جهود عزل النفوذ الإيراني وحلفائه في المنطقة، حيث تُعتبر غزة ساحةً لتصفية حسابات مع محور المُقاومة الممتد من طهران إلى حزب الله في لبنان.

كما تُحاول واشنطن استغلال الأزمة لدفع دول عربية نحو تبني دورٍ “مُستقر” في فلسطين، ما يُخفف العبء عن إسرائيل، ويُعيد ترسيم دور الولايات المتحدة كـ”وسيط لا غنى عنه”.

لا يُمكن فصل هذه السياسة أيضًا عن السعي الأميركي لترسيخ تحالفات إقليمية جديدة، ما يتطلب “تهدئة” غزة دون منح تنازلات فلسطينية جوهرية.

هنا، تبرز مُفارقة السياسة الأميركية التي تدعم حل الدولتين شكليًا، لكنها عمليًا تُعزز واقعًا أحادي الجانب، يتماشى مع الرؤية الإسرائيلية اليمينية التي ترفض التفاوض على القدس أو الحدود.

إدارة الصراع بدلًا من حلّه:

تاريخيًّا، لم تكن السياسة الأميركية في الشرق الأوسط قائمة على إيجاد حلول للصراعات، بل على إدارتها بما يخدم مصالحها.

ورغم التصريحات العلنية التي تؤكد رغبتها في القضاء على حماس، تدرك واشنطن أن تورطها المباشر في حرب ضد المقاومة لن يكون في صالحها، لا من الناحية العسكرية ولا الاقتصادية.

لذلك، تسعى الولايات المتحدة إلى توجيه الصراع نحو مسار آخر: استنزاف المقاومة عبر إدخال أطراف عربية في المواجهة، ما يخلق حالة من الفوضى المستمرة، تُبقي إسرائيل القوة الأكثر استقرارًا وتفوقًا في المنطقة.

هذه الإستراتيجية ليست جديدة، بل هي امتداد لنظرية “الفوضى الخلاقة” التي اعتمدتها الإدارات الأميركية السابقة، حيث يتم تفكيك موازين القوى الإقليمية لصالح مشروع إسرائيلي- أميركي طويل الأمد.

إشعال الحرب بين المقاومة والدول العربية:

في ظل تعقيدات المشهد، تحاول واشنطن دفع بعض الدول العربية، خاصة تلك المتاخمة لغزة كالأردن ومصر، إلى أداء أدوار أكبر في المواجهة، سواء عبر الضغط السياسي، أو المشاركة الأمنية والاستخباراتية، أو حتى عبر تقديم نفسها كوسيط مشروط بمطالب أميركية وإسرائيلية.

مصر، بحكم موقعها ودورها التقليدي في القضية الفلسطينية، تواجه ضغوطًا مستمرة لتغيير موقفها من المقاومة، بينما تتعرض الأردن لضغوط مماثلة؛ بسبب المخاوف الإسرائيلية من امتداد نفوذ حماس إلى الضفة الغربية. هذه الدول تجد نفسها في مأزق: إما الانخراط في لعبة أميركية لا تخدم مصالحها، أو مواجهة ضغوط اقتصادية وسياسية هائلة.

الرهان الأميركي يعتمد على إنهاك الدول العربية اقتصاديًّا وأمنيًّا حتى يصبح تطبيع العلاقات مع إسرائيل ضرورة سياسية وأمنية، وليس مجرد خيار إستراتيجي

التطبيع كهدف نهائي:

أحد الأهداف الخفية لهذه الإستراتيجية هو دفع الدول العربية إلى مزيد من الانخراط في مسلسل التطبيع، ليس من خلال اتفاقيات مباشرة فحسب، بل عبر خلق واقع يجعل التعاون مع إسرائيل خيارًا “إجباريًّا” وليس مجرد قرار سيادي.

فالرهان الأميركي يعتمد على إنهاك الدول العربية اقتصاديًّا وأمنيًّا حتى يصبح تطبيع العلاقات مع إسرائيل ضرورة سياسية وأمنية، وليس مجرد خيار إستراتيجي.

كيف تواجه الدول العربية هذه اللعبة؟

الحل الوحيد أمام الدول العربية، وخاصة تلك القريبة من غزة، هو رفض الانجرار إلى هذا المخطط الأميركي. الانخراط في صراعات جانبية لن يؤدي إلا إلى إضعافها على المدى الطويل، بينما ستظل إسرائيل المستفيد الأكبر.

لذا، فإن دعم الشعب الفلسطيني، وليس الدخول في مواجهة مع المقاومة، هو ما يجب أن يكون أولوية إستراتيجية للدول العربية.

أما على المستوى الشعبي، فإن الوعي بهذه الإستراتيجية أمر بالغ الأهمية، فواشنطن تسعى إلى إيهام الرأي العام العربي بأن المقاومة هي السبب في الأزمات، بينما تتجاهل الدور الأميركي في تأجيج الصراع. إدراك هذه الحقيقة هو الخطوة الأولى نحو إفشال هذا المخطط.

ختامًا:

ما يجري اليوم ليس مجرد حرب على غزة، بل محاولة لإعادة رسم المشهد الإقليمي بأكمله.

وإذا لم تدرك الدول العربية هذا الواقع، فقد تجد نفسها في مواجهة لم تكن طرفًا فيها منذ البداية، لكنها ستدفع ثمنها في النهاية.

Exit mobile version