
غزة – متابعة الوعل اليمني
كشفت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في تحقيق مطوّل عن حملة واسعة النطاق تمولها إسرائيل بملايين الدولارات، تهدف إلى تقويض العمل الإنساني في قطاع غزة، واستهداف المؤسسات والعاملين في المجال الإغاثي، وعلى رأسها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا”، في محاولة واضحة لنزع الشرعية عنها وعرقلة قدرتها على أداء دورها الحيوي في حماية ملايين الفلسطينيين.
وقالت مارا كروننفيلد، المديرة التنفيذية للأونروا في الولايات المتحدة، إن العامين الماضيين شكّلا ماراثونًا مستمرًا من البؤس والمعاناة غير المسبوقة للفلسطينيين، مشيرة إلى أن حجم الدمار الإنساني في غزة يفوق الوصف، سواء من حيث عدد الضحايا أو طبيعة الاستهداف الذي طال المدنيين والبنية التحتية الأساسية للحياة.
وأوضحت الكاتبة أن العدد الرسمي للشهداء في قطاع غزة، والذي تجاوز سبعين ألف شهيد، لا يعكس الحجم الحقيقي للخسائر البشرية، بل يُرجح أن يكون أقل بكثير من الواقع. وأشارت تقديرات المجلة الطبية البريطانية “ذا لانسيت”، بالتعاون مع باحثين من جمعية ماكس بلانك الألمانية، إلى أن العدد الفعلي قد يكون أعلى بنسبة لا تقل عن أربعين بالمئة، ما يعني أن عدد الضحايا قد تجاوز حاجز المئة ألف شهيد، نتيجة القتل المباشر وانهيار النظام الصحي وانتشار المجاعة والأمراض. وفي الوقت نفسه، كشفت بيانات مستخلصة من قاعدة معلومات استخباراتية إسرائيلية داخلية أن ما لا يقل عن ثلاثة وثمانين بالمئة من الفلسطينيين الذين استشهدوا خلال العدوان الإسرائيلي على غزة هم من المدنيين، وهو ما يتناقض بشكل كامل مع الرواية الرسمية الإسرائيلية التي تزعم استهداف مقاتلين فقط.
الأطفال تحت النار
وتوقفت المديرة التنفيذية للأونروا عند حجم الضرر الذي لحق بالأطفال، واصفة إياه بأنه ضرر لا يمكن وصفه أو استيعابه بالأرقام وحدها، فقد استشهد عشرات الآلاف من الأطفال، بينما فقد نحو أربعين ألف طفل أحد والديهم أو كليهما، وخضع ما يقارب أربعة آلاف طفل لعمليات بتر أطراف بسبب إصابات بالغة، ما يجعل غزة اليوم موطنًا لأكبر عدد من الأطفال مبتوري الأطراف في التاريخ الحديث.
وأضافت أن المجاعة لم تكن نتيجة جانبية للحرب، بل استُخدمت كسلاح، بل وحتى المساعدات الإنسانية جرى توظيفها سياسيًا وعسكريًا. وقالت كروننفيلد: في الوقت الذي يعتقد فيه المرء أن الوضع لا يمكن أن يزداد سوءًا، جاءت الفيضانات الأخيرة لتحول شوارع غزة المدمرة إلى أنهار، وتسببت الأمطار الغزيرة التي تسربت عبر الأغطية البلاستيكية والأسقف المحطمة في تشريد مئات الآلاف من العائلات، وتركتهم في مواجهة البرد القارس والرطوبة الشديدة دون أي مأوى آمن.
أونروا رغم الحصار
ورغم هذا الوضع الكارثي، أكدت الأونروا أنها تمتلك مواد إيواء تكفي نحو مليون وثلاثمئة ألف شخص مخزنة خارج حدود قطاع غزة مباشرة، إلى جانب نحو خمسة آلاف شاحنة محمّلة بإمدادات طارئة تشمل الغذاء والدواء والمياه، إلا أن إسرائيل لا تزال تمنع دخول جميع هذه الإمدادات في خرق واضح للقانون الدولي الإنساني.
وعلى الرغم من كل القيود والاستهداف، تواصل الأونروا عملها داخل غزة، وتنقذ الأرواح وتحافظ على بصيص من الأمل للسكان المنكوبين. وقالت كروننفيلد إن محاولات السلطات الإسرائيلية لمنع الدعم الإنساني الذي تقدمه الأونروا لم تفلح في كسر إرادة موظفيها، إذ يواصل نحو اثني عشر ألف موظف العمل بلا توقف، رغم تعرضهم للنزوح والإصابة وفقدان أفراد من عائلاتهم.
الخدمات الأساسية المستمرة
ويقدّم الطاقم الصحي التابع للأونروا حاليًا نحو أربعين بالمئة من خدمات الرعاية الصحية الأولية في غزة، حيث يتم علاج ما بين عشرة إلى خمسة عشر ألف مريض يوميًا، فيما بلغ عدد الاستشارات الطبية منذ أكتوبر 2023 نحو خمسة عشر مليون وستمئة ألف استشارة.
كما يواصل مهندسو الأونروا العمل لضمان تدفق المياه النظيفة، دعمًا للصحة العامة والنظافة، حيث تم خلال الأسبوعين الأخيرين من نوفمبر 2025 توفير مياه صالحة للشرب لأربعمئة ألف نازح.
وفي الوقت نفسه، يقوم عمال الوكالة بإزالة ما بين ثلاثمائة إلى أربعمائة طن من النفايات الصلبة أسبوعيًا في ظروف بالغة الخطورة. أما على الصعيد النفسي والاجتماعي، فيقدّم مستشارو الأونروا الدعم النفسي لما يقارب سبعمئة وعشرين ألف نازح، بينهم خمسمائة وعشرون ألف طفل، في محاولة للتخفيف من آثار الصدمات الجماعية، كما عاد أكثر من خمسين ألف طفل إلى فصول الأونروا الدراسية، بينما وصلت برامج التعليم عن بُعد إلى مئات الآلاف من الأطفال الآخرين.
استهداف الموظفين المستمر
ورغم كل هذا الدور الحيوي، تؤكد التقارير أن الهجمات التي تقودها الحكومة الإسرائيلية تستهدف تعطيل الأونروا وتفكيكها بالكامل. فقد استشهد ثلاثمئة وواحد وثمانون موظفًا من موظفي الوكالة في هجمات عسكرية إسرائيلية منذ أكتوبر 2023، وهو أعلى عدد من الضحايا بين العاملين في المجال الإنساني في تاريخ الأمم المتحدة.
كما اعتُقل عدد من موظفي الوكالة في غزة، وأفادوا لاحقًا تعرضهم لسوء المعاملة والتعذيب. وفي موازاة ذلك، سنّ الكنيست الإسرائيلي قانونين يهدفان إلى إغلاق الأونروا ومنع عملها.
الدعاية ونزع الشرعية
وتوضح المقالة أن الحكومة الإسرائيلية وحلفائها استخدموا القانون والدعاية كوسيلة لنزع الشرعية عن الوكالة، حيث أنفقت إسرائيل ملايين الدولارات على حملة دعائية عالمية متعددة القنوات، شملت لوحات إعلانية في كبرى مدن العالم تصوّر موظفي الأونروا كإرهابيين، إضافة إلى حملات رقمية مدفوعة على الإنترنت، بما في ذلك إعلانات “جوجل” تعتمد على معلومات مضللة.
وتؤكد كروننفيلد أن هذه المزاعم تم دحضها مرارًا، حيث خلص تقرير أعدته وزيرة الخارجية الفرنسية السابقة كاثرين كولونا إلى أن الأونروا تتمتع بنظام حياد أكثر تطورًا من أي وكالة أممية أو منظمة غير حكومية مماثلة.
كما خلصت لجنة التحقيق التابعة لمكتب خدمات الرقابة الداخلية في الأمم المتحدة إلى أن الادعاءات الإسرائيلية بشأن تورط تسعة عشر موظفًا في هجمات السابع من أكتوبر لم تستند إلى أدلة موثوقة، إذ قُدمت أدلة غير مؤكدة في تسع حالات فقط، تمثل 0.03 بالمئة من إجمالي موظفي الأونروا، ولم يتم حتى الآن التحقق من صحتها.
وبدوره قيّم مجلس الاستخبارات الوطنية الأمريكي هذه المزاعم بثقة منخفضة، ولم يجد أي دليل على تعاون مؤسسي بين الأونروا وحماس، مشيرًا إلى أن التحيز الإسرائيلي يؤدي إلى تشويه التقييمات المتعلقة بالوكالة.
وأكدت محكمة العدل الدولية في فتواها الاستشارية أن إسرائيل ملزمة بتسهيل عمل الأونروا، ولا يحق لها عرقلته. كما ذكّرت المقالة بأن الأونروا تشارك قوائم موظفيها كاملة مع إسرائيل منذ نحو عشرين عامًا، ولم تُبدِ إسرائيل أي اعتراض رسمي منذ عام 2011.
الحقيقة وراء الهجمات
وتختم كروننفيلد بالقول إن استمرار الهجوم على الأونروا يعود إلى كونها تجسّد حقيقة لا يريد البعض الاعتراف بها، وجود شعب فلسطيني له حقوق، ولاجئون يستحقون الحماية، ومجتمع دولي مُلزم بحل عادل ودائم. وأضافت أن موظفي الأونروا هم العمود الفقري لأي مستقبل فلسطيني، وهم الأكثر خبرة وقدرة على إعادة البناء، مؤكدة أن حياة وأمل مليوني فلسطيني في غزة وملايين آخرين في الضفة الغربية والدول المجاورة مسؤولية جماعية لا يمكن التخلي عنها. وقالت: لقد تبرع مئتا ألف متبرع أمريكي بالفعل للوكالة خلال العامين الماضيين، ودافع ستون ألفًا منهم عن قضيتنا، داعية الجميع للانضمام إليها من أجل تغيير مسار التسييس البغيض لعمل الأونروا الحيوي.
كيف حسمت إسرائيل صفقة الغاز مع مصر؟
إسرائيل تغرق غزة بالمخدرات وسط حصار مستمر
منظمات أممية توثق أضرار الأمطار وانهيار المباني في غزة
13 وفاة بسبب البرد والعفو الدولي يحمل إسرائيل المسؤولية