أعلن الدكتور “عارف أحمد المخلافي”، أستاذ تاريخ وآثار الشرق والجزيرة العربية القديم غير المتفرغ بجامعة صنعاء، الخميس الماضي، صدور كتابه عن دار “زهراء الشرق” بالقاهرة بعنوان: “التاريخ المُقَنّع: هل التاريخ حدث أم فكرة؟ نقد أطروحات التوراتيين العرب”.
وبحسب الدكتور المخلافي، فإن هذا الإصدار العلمي جاء ثمرة عمل بحثي امتد لأكثر من 18 عاماً، في سياق رد علمي ممنهج على ما وصفه المؤلف بـ”الموجة التوراتية” التي تسعى لنقل جغرافية التوراة إلى الجزيرة العربية، وبشكل خاص إلى اليمن ومكة المكرمة.
وسعى “المخلافي” في كتابه الذي يمتد على 446 صفحة ويتضمن أكثر من 225 مرجعًا علميًا، إلى تفكيك خطابات انطباعية تفتقر إلى الموضوعية والدقة العلمية، وتُروّج لمزاعم جغرافية توراتية متخيلة داخل اليمن، من قبل عدد من الباحثين والكتّاب العرب، أبرزهم الكاتب العراقي فاضل الربيعي، ما يستوجب التصدي لها بمنهجية علمية رصينة.
وأكد الباحث “أن هذا الكتاب هو بمثابة مكتبة مصغرة لأطروحات التوراتيين العرب، يعرض توجهاتهم، ويفند مزاعمهم، ويناقش أدواتهم المنهجية، ودعوة للعقل العربي للتحقق، وعدم الانجرار خلف سرديات خيالية تُلبس الزيف ثوب الحقيقة”.
وأوضح الدكتور المخلافي أن الكتاب يسعى لتوثيق هذه الظاهرة وكشف زيفها، ولا يهدف إلى شطب أي اجتهاد فكري، وإنما إلى تأسيس مناقشة علمية قائمة على أدوات التخصص ومنهج البحث الأكاديمي.
ويُعد الكتاب أول من صكّ مصطلح “التاريخ المُقَنّع”، الذي يعرّفه الدكتور المخلافي بأنه خطاب سردي يقوم على تحريف وتلفيق الجغرافيا التاريخية، عبر اجتزاء أسماء المواقع وإسقاطها تعسفيًا على أماكن جديدة لا علاقة لها بالأحداث الأصلية. ويرى أن أصحاب هذا الاتجاه يعتمدون على النصوص التوراتية فقط، ويتجاهلون نتائج علم الآثار والنقوش والمصادر التاريخية لحضارات الشرق القديم.
وأشار الدكتور المخلافي، إلى أن مصطلح “التاريخ المُقَنّع” لا يقتصر على مجال التأريخ، بل يمكن أن يمتد ليصف كل فكرة زائفة أو موقف مُلتَوٍ، سواء في الفكر، أو الثقافة، أو السياسة، أو الاقتصاد، أو الإعلام، أو حتى الاستثمار. ويقارن بينه وبين مصطلحات مثل “التاريخ المُحَرّف” و”التاريخ المُزَوّر”.
وأضاف أن المصطلطح، لا يقوم على منهج علمي متكامل، ولا على بحث رصين، فهو يعتمد منهجًا أُحاديًا أساسه المقابلة بين الأسماء والألفاظ لإثبات الفكرة، في حين يتجاهلُ النصوصَ التاريخيةَ في حضارات الشرق القديم والجزيرة العربية، ونتائجَ التنقيباتِ عن الآثار بالمطلق، ويؤمن فقط بصحة النص التوراتي، وخطأ الجغرافية التوراتية.
ويطرح الكتاب السؤال المركزي: “هل التاريخ حدث أم فكرة؟”، ليخلص إلى أن بعض الكتابات المعاصرة تفرغ التاريخ من جوهره الحدثي، وتقدّمه كأفكار متخيلة تخدم أغراضًا أيديولوجية.
وحذر المخلافي في مقدمة كتابه من خطورة هذه الكتابات على الذاكرة التاريخية للأمة، مشددًا على ضرورة التصدي لها بمنهج علمي رصين، وداعيًا إلى ضرورة التفريق بين التأريخ القائم على الدليل، وبين الخطابات الفكرية المتخيلة ذات البعد الأيديولوجي.
وفي القسم الثاني من الكتاب انتقد المخلافي، أطروحات الكاتب العراقي فاضل الربيعي، الذي يُعد من أبرز من سعى إلى “تغيير جغرافية التوراة”، عبر ربط حضارات اليمن القديم مثل سبأ وحمير بتاريخ بني إسرائيل ويهوذا، في خلط وصفه المؤلف بـ”الجهل الفاضح بالتاريخ ومصادره”.
واستعرض المؤلف، بالأدلة النقشية والمادية، ما يصفه بـ”الأخطاء الكارثية” في أطروحات الربيعي، كادعائه أن “مصر التوراتية” تقع في الجوف اليمني، أو أن معارك الآشوريين وقعت في جبال اليمن، بينما أظهرت الشواهد الأثرية أنها وقعت في شمال العراق وبلاد الشام.
أما الفصل الثالث من الكتاب خصص لنماذج من كتب الربيعي، أبرزها “مصر الأخرى”، و”يهوذا والسامرة”، مبينًا كيف سقطت هذه الكتب في فخ “التاريخ المتخيل”، من خلال إسقاطات جغرافية غير علمية، رغم كونها قائمة على إساءة قراءة النقوش وتحريف السياقات التاريخية.
وقدّم الدكتور المخلافي، قراءة نقدية موسعة لإثني عشر كتابًا صدرت خلال العقود الماضية، لعدد من الكتّاب العرب الذين يروجون لأفكار مشابهة، ومنهم: كمال الصليبي، زياد منى، فرج الله صالح ديب، أحمد عيد، فضل الجثام، لطيف إلياس لطيف، أنور خالد، أحمد الدبش، أحمد بن سعيد قشاش، والطبيب محمد منصور.
ووصف المخلافي، هؤلاء بأن غالبيتهم من خارج التخصص الأكاديمي، وهو ما يدعو للتساؤل حول الدوافع الحقيقية وراء انشغالهم بالتاريخ القديم رغم ابتعادهم عن أدواته ومنهجيته العلمية. كما يناقش الكتاب نقدًا لأطروحة محمد منصور التي ترى في الكعبة “قدس أقداس” الهيكل، معتبرًا ذلك أخطر تحول في مسار هذه المدرسة.
وأشار المؤلف إلى أن مصطلح “التاريخ المُقَنّع”، لا يقتصر على مجال التأريخ، بل يمكن أن يمتد ليصف كل فكرة زائفة أو موقف مُلتَوٍ، سواء في الفكر، أو الثقافة، أو السياسة، أو الاقتصاد، أو الإعلام، أو حتى الاستثمار. ويقارن بينه وبين مصطلحات مثل “التاريخ المُحَرّف” و”التاريخ المُزَوّر”.
ولفت المخلافي إلى أن ما قدمه الكتاب يُسلط الضوء على هجمة فكرية ترتدي ثوب التاريخ، بغير تخصص ولا اختصاص. كما أنه لا يخلو من التقصير والقصور، فهو كأي مؤلَّف اجتهد صاحبُه وقدّم ما رآه صوابًا، في حين قد يختلف معه أو يتفق آخرون أو يضيفون جديدًا.
وأكد الدكتور “عارف المخلافي”، أن الغاية من اصدار الكتاب هي تعريف القارئ الكريم بكل ما كُتب من قِبَلِ جماعة التاريخ المُقَنّع، كي لا يقع في إغراءات تعدُّدِ المؤلفاتِ المُكررة أفكارها، والمتنوعةِ رُقعِها الجغرافية المُتخيلة، فيتكرس ذلك في ذاكرته الجمعية كمسلمات؛ وهو غاية ما يجتهدُ هؤلاء لغرسه في ذاكرة الأمة.