ريادة السرد العربي من منظور مشاريع الأقلمة السردية عند “هناوي”

 قدمت الناقدة والدكتورة العراقية نادية هناوي مؤخرا كتابين نقديين هامين يأتيان في مسار دراستها للسرد وظواهره من زوايا غير مألوفة. ويأتي الكتاب الأول بعنوان “أقلمة سرد الحيوان” استكمالا لمشروع هناوي في “الأقلمة السردية”، وكانت قد بدأته بكتابها “أقلمة المرويات التراثية” وأتبعته بكتابين هما “الأقلمة السردية من العصور الوسطى حتى القرن التاسع عشر” و”الأقلمة السردية: مخابرها الغربية – مناشئها الشرقية”.

ويدور كتاب “أقلمة سرد الحيوان”، الصادر عن مؤسسة أبجد للنشر والترجمة والتوزيع، في إطار النظرية السردية وما يجري في العالم من تطور في مجال دراسات الأقلمة، بغية الإفادة منها في دراسة تراث السرد العربي بكل ما فيه من نظم وتقاليد وأساليب وتقانات، ترسيخا لدوره التأصيلي في السرد الحديث والمعاصر، وتدليلا على عالميته التي تراها المؤلفة قد “حجبت بستر التبعية، بكل ما في الاتباع من تقريع الذات ودفن قابلياتها والتشكيك في قدراتها.”

ويدخل هذا النوع من الدراسات في إطار نزعة ما بعد الإنسان التي كان قد ساهم بعض المفكرين في تعزيزها. وممن تناولهم الكتاب بالدراسة الفيلسوف جاك دريدا بمقالته “الحيوان الذي أكون”، وفيها رأى أن الحيوان يملك وجودا متجانسا ومتناغما مثلنا، وأن الملايين من الكائنات الأخرى تتطلب منا أن نبدأ في التعامل معها بجدية.

◙ قضية التجنيس الأدبي في أساسها هي عبارة عن قوالب
☺قضية التجنيس الأدبي في أساسها هي عبارة عن قوالب

واستعاد دريدا ما قاله ميشيل دي مونتيني (1533 – 1592) حين كتب اعتذارا إلى ريموند سيبوند، متسائلا عن علاقته بقطته. فالقطة كيان حقيقي وتحديقها فيه له معنى. أما جان فرانسوا ليوتار فطرح أسئلة كثيرة حول علم الأجناس وما هو غير إنساني وتساءل “ماذا لو كان البشر بذاك الإدراك الحسي الإنساني في عملية إكراهية لتحويلهم إلى غير البشر؟ ماذا لو كان ما نعرف أنه مناسب للبشر قد أصبح ملائما لغير البشر؟”

 وافترض فرانسيس فوكوياما في كتابه “مستقبلنا ما بعد البشري” أن الإنسان في أصل تكوينه حيوان ثقافي ومن المستحيل أن نتحدث عن حقوق الإنسان، وبالتالي عن العدالة والسياسة والفضيلة بصورة أكثر عمومية من دون أن يكون لدينا مفهوم ما عن ماهية البشر كنوع حي. فالبشر أحرار في صوغ سلوكياتهم الخاصة لأنهم حيوانات ثقافية قادرة على تعديل الذات، ومثلما أن الحيوانات تتصارع من أجل البقاء والاعتراف بالغلبة فكذلك البشر يتصارعون.

وتؤكد المؤلفة أن تبنّي المدرسة الأنجلوأميركية لنزعة ما بعد الإنسان، هو الذي وسّع مدارات علوم السرد ما بعد الكلاسيكية باتجاهات بشرية وغير بشرية، ويعد علم سرد الحيوان واحدا من تلك العلوم المستجدة وميدانا بحثيا يختبر فيه كل ما هو نظري وإجرائي له صلة بعلاقة الإنسان بالحيوان من جهة، ويتقارب أو يتداخل من جهة أخرى مع ميادين علمية أخرى، لعل أهمها علم البيئة من ناحية ما للإنسان من دور رئيس في دمار الطبيعة وتهديد نظامها الإحيائي النباتي والحيواني. ويساهم في ذلك كله ظهور جمعيات ومنظمات تدافع عن البيئة وتدعو إلى الرفق بالحيوان.

هذا وصدر حديثا أيضا عن المؤسسة نفسها كتاب آخر للدكتورة نادية هناوي بعنوان “العبور الأجناسي: الأشكال – الأنواع – القضايا”، ويعد الكتاب السادس في ما بحثته المؤلفة في هذه النظرية من قضايا وتفريعات، بعد كتبها “نحو نظرية عابرة للأجناس” (2019) و”الطائر المكدود في البحث عن اليقين المفقود لعبدالرحمن طهمازي” (2021) و”غاليانو صياد الكلام والعبور الأجناسي” (2022) و”قصيدة النثر العابرة في مطولات الشاعر منصف الوهايبي” (2024) و”السونيت في شعر حسب الشيخ جعفر” (2023).

ويتوزع الكتاب الجديد بين بابين؛ يختص الباب الأول بعبور أجناس “الرواية والقصة القصيرة والمقالة” على أشكال وأنواع وأجناس معينة، ويختص الباب الثاني بقضايا العبور الأجناسي وما كان قد تمخض عن البحث والتنظير في الأجناس العابرة من مسائل وفرضيات سعى الكتاب إلى التعمق فيها وفك ما فيها من اشتباكات والتباسات.

ويقوم الكتاب على فكرة أن قضية التجنيس الأدبي في أساسها هي عبارة عن قوالب، ولا يمكن الحديث عن أيّ قالب إلا في جوهر ما يعنيه الثبات من القدرة على الضم والاحتواء من الداخل والخارج. وهذا ما يجعل لقضية التجنيس أهمية من جانب وتعقيدا من جانب آخر. وتؤكد المؤلفة أنه بسبب ذلك كله حاول بعض المنظرين إلغاء التجنيس بالكامل أو القول بنفي النقاء عن الأجناس الأدبية.

Exit mobile version