شيرين عرفة
عربي؟؟ سؤالٌ جاء على لسان أحد منفذي عملية يافا البطولية، في مقطع جرى تداوله على مواقع التواصل، وتم تصويره بكاميرا جوال، فلم تظهر به على وجه الدقة ملامح الشابين الفلسطينيين، إلا أن الكلمة التي وجِّهت للمارة بالسؤال عما إذا كانوا عربا أم إسرائيليين، قبل استهدافهم بالرصاص، كانت من الوضوح بمكان، لتصل إلى مسامع المشاهدين.
طبقا للإعلام العبري، العملية الفدائية تلك هي الأصعب بتاريخ تل أبيب، منذ الانتفاضة الثانية في عام 2000. وبطلاها هما الشابان الفلسطينيان محمد مسك (19 عاما)، وصديقه أحمد الهيموني (25 عاما)، اللذان قدما من أقصى جنوب الضفة الغربية، من مدينة الخليل، وتسللا عبر ثغرة في الجدار الفاصل قرب مدينة القدس، فوصلا إلى مدينة يافا المحتلة، داخل “تل أبيب”، فقاما بطعن مستوطن إسرائيلي، واستوليا على سلاحه من طراز “إم 16″، ثم توجها به إلى محطة القطار الخفيف، يحمل أحدهما السلاح، ويسير الآخر بجانبه، فأسقطا 23 صهيونيا بين قتيل وجريح، لكنهما قبل استهدافهما للمارة وقتلهم، كانا يسألان أولاً بصوت مرتفع: عربي؟
يهدف السؤال بالطبع لتمييز العرب عن سارقي الأرض الإسرائيليين، كما يحمل رسالة واضحة، بأن تلك الأرض عربية، وأن رصاصهم موجه فقط للصوص المحتلين.. لكنني حين شاهدت المقطع، واستمعت إلى المقاومين، شعرت بغصة في قلبي، وكأن هذا السؤال موجه لي، ويخاطب كل عربي يتابع ما يحدث على أرض فلسطين.
عربي.. ورأيت ما يقع لنا من إبادة ومذابح وتهجير وتنكيل؟
عربي.. وتقبل أن تظل صامتا وتكتفي بالفرجة على دماء أهل غزة، وهي تسيل أنهارا منذ عام كامل، أمام عينيك؟
لكن هذين الشابين، لم يقبلا بأن يقفا صامتين أمام ما يحدث لإخوانهم من إجرام وجنون، وأرادا توجيه رسالة للمحتل الغاصب: “أنت لست آمنا، ولن تهنأ بالعيش فوق أي بقعة على أرض فلسطين”.
وعلى الرغم من معرفتهما المسبقة بوحشية المحتل اليهودي، لم يثنهما ذلك عن نصرة أهل غزة، ورضيا بالثمن الباهظ الذي سيدفعانه، فاستشهد “مسك” بمكان الحادث، ثم استشهد “الهيموني” متأثرا بجراحه، وقد اقتحمت الشرطة الإسرائيلية منزلي الشابين، وأجرت مسحا هندسيا لهما تمهيدا لهدمهما، كما اعتقلوا والد الشاب “محمد مسك” وثلاثة من إخوته، وتوعد وزير المالية الصهيوني المتطرف “سموتريتش” بأنه سيطالب في مجلس الوزراء بترحيل أفراد عائلتي الشابين إلى غزة. وبالرغم من هذا كله، فقد ظهرت والدة الشاب “أحمد الهيموني” في مقطع مصور، تعرب فيه عن فخرها واعتزازها بما فعله ابنها، وأنها غير حزينة على استشهاده، لأنه بحسب تعبيرها “فداء لأهل غزة”!
وبمرور سريع على وسائل الإعلام، ستجد أن العملية الاستثنائية شكلت صدمة للداخل الإسرائيلي ولأجهزة أمن الاحتلال، فهي الأقوى والأعنف منذ سنوات، وتوقيت حدوثها كان بالغ الأهمية، حيث تزامن مع تصعيد الاحتلال على الجبهة اللبنانية، وقبل الرد الإيراني بلحظات. وقد جاءت بعد يوم واحد فقط مما ذكره موقع “والا” العبري عن رفع الجيش الصهيوني تأهبه، على خلفية تحذيرات من وقوع عمليات استشهادية لفلسطينيين قبيل الأعياد، وفي ظل ما يمارسه المحتل بحق سكان الضفة من تنكيل واعتقالات.
ووقعت العملية فيما يستمر إغلاق مداخل المدن والبلدات الفلسطينية بالحواجز والبوابات الحديدية، منذ بدء العدوان على غزة في 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أما مدينة الخليل، التي جاء منها المقاومان، فتعيش على وقع حصار خانق، وإجراءات عسكرية إسرائيلية مشددة، بعد عملية فدائية أخرى حدثت قرب حاجز “ترقوميا” العسكري غربي المدينة، وأدت إلى مقتل 3 من عناصر الشرطة الإسرائيلية في الأول من سبتمبر/ أيلول الماضي.
تساءل الصهاينة في ذهول: كيف تسلل الشابان؟ كيف اخترقا الإجراءات الأمنية المعقدة؟ كيف تخطيا عشرات الحواجز والأسوار والبوابات، ومئات الجنود المنتشرين في المدن المحتلة، في الشوارع والطرقات؟!
شابان أعزلان، اخترقا المدن الإسرائيلية المنيعة، وانتزعا سلاحا واحدا، وتحركا به بمنتهى القوة والثبات، ليقتلا ثمانية من الصهاينة، ويصيبا خمسة عشر آخرين، لكننا في غمرة الانبهار بشجاعتهما وإقدامهما العجيب، والأحداث التي لا تكاد تُصدق، وكأننا أمام فيلم هوليودي.. علينا أن نتذكر جميعا السؤال، الذي كان آخر ما نطق به هذان الشابان، ويفكر كل واحد منا، في إجابة عليه..
عربي؟؟