كثيرًا ما نُدعَى للعشاء في المناسبات الاجتماعية، ويكون موْعد العشاء بعد الساعة العاشرة مساءً، وكثيرًا ما يأتي فصل الصيف بالسهر الذي يتبعه تناوُل طعام العشاء في وقتٍ مُتأخِّر جدًّا، وغالبًا ما تُؤَدِّي الظروف من حولنا إلى أن تكون وجبة العشاء أكبر وجبة، كما أنَّ تسارُع إيقاع الحياة وضِيق الوقت في ساعات النهار الأُولى يأتي على حساب وجبة الإفطار، التي أصبحت وجبة مهملة؛ لأنها تأتي متأخِّرة عن وقتها في جدول الغالبية العُظمَى مِنَّا.
ويتساءَل بعضهم: هل يؤثِّر توقيت الوجبات على صحَّة الإنسان؟ وهل يُؤدِّي هذا الاضطراب بطريقةٍ أو بأخرى إلى التعجيل بأمراض مُعَيَّنة، أو يجعل المحافظة على الوزن أمرًا أصعب؟ وهل توزيع كميَّة السعرات الحرارية على الوجبات الثلاث له نظام مفضَّل للصحَّة؟
وسؤال آخر يَطرح نفسه في هذا السياق: هل الالتزام بالوجبات الرئيسة الثلاث أمر صحي؟ أم أن إضافة وجبات صغيرة هو أفضل للصحة؟
إن الحكمة المتداوَلة تقول: (أفطِر إفطار الملوك، وتغدَّ غَداء الأغنياء، وليكن عَشاؤك عَشاء الفُقَراء)، ومن المُسَلَّم به أن هناك ساعة بيولوجية للجسم يتمُّ بها تنظيم نشاطه على مَدار اليوم، وهي متعلِّقة كثيرًا بنوعيَّة وتوقيت الهرمونات التي تُفرِزها الغدَّة النخامية (هرمون النمو، الكورتيزون، والميلاتونين، والأنسولين، والجلوكاجون… وغيرها)، وهي هرمونات إيقاع يحدِّد كميَّة ما يُفرَز من كل هرمون على مَدار الساعة، ولم يجعل الله – سبحانه وتعالى – الليل سباتًا والنهار معاشًا من دون أن يكون لذلك علاقة بتكوين الإنسان، وإيقاع جسمه البيولوجي والهرموني والكيميائي اليومي.
وممَّا لا شكَّ فيه أن لدى الإنسان قدرة كبيرة على التأقلم والتكيُّف، كما أن لديه مرونة في التعامل مع الوجبات مهما اختلف توقيتها ولكن بحدود، وقد تكون القدرة على التأقلم أقوى لدى أشخاص معيَّنين وفي أعمارٍ معيَّنة، أمَّا الآخَرون فيؤدِّي بهم هذا الاضطراب إلى مشكلات صحيَّة.
إن الوقت ما بين العَشاء والإفطار في اليوم التالي هو الأطول بين الوجبات، إلا أن هذا الوقت يتزامَن مع كوْن الجسم خامِلاً وهادِئًا، ويُقارَن ذلك بالفترة القصيرة نسبيًّا بين الإفطار والغداء، إلاَّ أن هذه المدَّة القصيرة تتزامَن مع وقتٍ يكون الإنسان فيه في ذروة العمل والنشاط، ومن المعروف أن حرْق كميَّة أكبر من السعرات الحرارية يتمُّ في الساعات الأولى من النهار بفعْل نشاط الجسم وإفراز الهرمونات.
توقيت الوجبات:
يختلف المختصُّون في التغذِيَة في موضوع توقيت الوجبات، فهناك الذين يقولون بأنه لا يهمُّ التوقيت بقدْر أهميَّة إجمالي عدد السعرات المتناوَلة في اليوم، ويعتقدون أن السعر الحراري هو السعر الحراري، ويتغاضون عن أوْقات نشاط الغُدَد الصَّمَّاء وأوْقات ذروة عملها، وهنا يُشار إلى هرموني الأنسولين والجلوكاجون تحديدًا؛ فهما اللذان يُنظِّمان حَرْق الدهون وخزنها في الجسم، ولهذين الهرمونين دورتهما وإيقاعهما اليومي الطبيعي.
إن الوجبات التي يتمُّ تناولها قبل النوم – وخصوصًا تلك التي تكون مليئة بالكربوهيدرات – تُنَشِّط إفراز الأنسولين الذي بدوره ينشِّط تحويل الكربوهيدرات إلى دهون مخزونة، ويقلِّل من حرْق الدهون، وهذا ما يَزيد احتمال الإصابة بالسمنة وارتفاع دهون الدم، وما يترتَّب على ذلك من احتمال تعجيل الإصابة بالداء السكريِّ وأمراض شرايين القلب.
لذا؛ فالنصيحة المُثلَى لِمَن لا يستطيع تخفيف وجبة العشاء أن يتناوَل وجبةً فيها نسبةُ البروتينات عالية مع التقليل من الدهون، والأفضل أن يتمَّ تناوُل الخضروات والفواكه.
قارنَتْ إحدى الدراسات بين مجموعتين تتناوَلان نفس الكميَّة من السعرات الحرارية: الأولى: كانت تتناوَل الكميَّة الكبرى في الصباح، والثانية: في وقت مُتأخِّر من الليل، ووجد أن المجموعة التي تتناوَل الوجبة الكبرى في الليل زادَتْ أوزانهم، بينما لم تزد أوزان أولئك الذين يتناولون الوجبة الكبرى صباحًا.
ومن المعروف أن الذين لا يفطرون يتناوَلون وجبات دسمة، وبكميَّات أكبر، في وجبة الغداء، مُقارَنة بأولئك الذين يتناولون وجبة الإفطار، بل هناك دراسات تُشِير إلى أن مجرَّد إهمال وجبة الإفطار تجعل الإنسان أكثر عرضة للسمنة وارتفاع دهون الدم.
تأخير العشاء:
إن تأخير العشاء وجعله وجبة دسمة رئيسة عادةٌ لها أثر سلبي على الصحَّة؛ ففي هذا الوقت المتأخِّر يكون الأيض والاستقلاب بطيئًا، وحرق واستهلاك الطاقة بطيئًا يشجِّع الجسم على تحويل ما يُؤكَل في هذا الوقت المتأخِّر إلى دهون تخزن في الجسم.
ويُضاف إلى ذلك أن تأخير العَشاء وكونه يحوي كميَّة من الدهون يؤدِّي إلى الإصابة بالحموضة؛ نتيجةً لأثر الدهون على ضبط الوَصْلة بين المرِّيء والمعدة، واحتمال ارتجاع محتويات المعدة شديدة الحموضة إلى المرِّيء.
الأكل بين الوجبات:
يَنصح بعض المختصِّين بالتغذية بتناوُل وجبتين بَيْنيَّتيْن، واختيار نَوْعيَّة هذه الوجبات بحيث تكون قليلة الدهون والكربوهيدرات، وغنيَّة بالألياف والفيتامينات مثل الفواكه والخضروات، وبذلك يمكن تجنُّب الإكثار من كميَّات الأكل في الوجبات الرئيسة نتيجة شدَّة الجوع.
توقيت النشاط البدني والوجبات:
من المعروف أن النشاط البدني الذي يأتي بعد مُدَّة طويلة من آخِر وجبة يُؤَدِّي إلى حرْق الدهون بكميَّة أكبر مقارَنة بممارسة النشاط بعد الأكل مباشرة؛ فمن المعروف أن الدم يُعاد توزيعه بحيث يُلَبِّي احتياجات هضْم الطعام، ويقلِّل نسبة ما يصل إلى العضلات والدماغ من الدم في أثناء عمليَّات الهضم النشيطة؛ لذا يفضل عدم مُمارسة النشاط البدني العَنِيف بعد تناوُل الوجبات مُباشَرة، ومن المعروف أن الإنسان بعد الوجبة يبدأ باستهلاك السكريات البسيطة، حتى إن بعضها يُذاب ويتحلَّل في الفم بفعْل اللُّعاب، أمَّا استهلاك البروتينات والدهون فيأخذ وقتًا أطول.
وإذا كان الهدف من النشاط البدني هو حرْق الدهون، فيفضل أن يكون بعد أطول مُدَّة من آخِر وجبة، كأنْ يكون في الساعات الأولى من النهار.
الخلاصة:
- لتكن وجبة الإفطار أهمَّ وجبة وأكمل وجبة من حيث المجموعات الغذائية.
- تجنَّب الأكل بعد الساعة الثامنة مساء.
- إن لم يكن بدٌّ من الأكل في وقت متأخِّر من المساء، فلتكن وجبة خفيفة قبل موعد النوم، تحوي بعض البروتينات والخضروات والألياف والفواكه، مع البُعْد عن الدهون.
ومن المهم جدًّا الإشارة إلى مُراعَاة الاختلافات الفرديَّة بين الأشخاص؛ فلكلِّ شخصٍ “جدول نشاط” مختلِف، قد يتقدَّم أو يتأخَّر قليلاً في نشاطه اليومي، ولذلك تأثيره المتعلِّق بتوقيت الوجبات، ولكن كل ذلك في حدود المعقول.
د. صالح الأنصاري – الألوكة