إنها جِنانٌ في جَنة

بقلم/ أيمن العتوم

صمودٌ في وجه الظلم: روايات من غزة

كيف يصبر هؤلاء صبرَ الصدمة الأولى؟ كيف يتلقَّون الشهادة بصدرٍ رحب قائلين: “سبقونا إلى الجَنّة”، وقد انتُزعتْ منهم فلذات أكبادهم واحدةً واحدة، وافتُلتَتْ منهم رفيقات دربهم الطويل في هذه الوحشة الأطول؟!

كيف يمكن أن يتحوّل شهداؤنا إلى أسماءٍ تُخطّ بأقلامٍ سوداء فوق أكفان بيضاء؟ كيف صاروا خبرًا في القنوات تجعلهم أرقامًا نتعبُ بعد حينٍ في عَدّها ولا يتعبون؟! ألهذا الحدّ هانوا علينا؟! كيف لهذا كله أن يُحتمل وأن يكون؟!

كيف يصبر وائل الدحدوح وهو يرى أبناءه الذين كبروا أمامه خطوة خطوة، ويومًا يومًا، وهو يرى آلة القتل الوحشيّة تفغر فاها لتبتلعهم ولا يقول إلا: الحمد لله؛ إنّا لله وإنّا إليه راجعون؟!

هذا الصّحفيّ المُقاتِل الذي يتلقّى الموت في كل لحظة، له صبرٌ كصبر الجِبال، وعزيمةٌ كعزيمة الرّجال الصادقين، وثباتٌ كثبات الأشجار السامقة، وشموخٌ كشموخ النجوم في الليالي الحالكة، تضيء للسارين الدروبَ المظلمة، وتمسح الجراح عن الأجساد النازفة، وهي تمضي إلى غايتها غير عابئة بالحَتْف المُتربِّص بها في كل حين.

كيف يسير هؤلاء في هذه الحياة بمثل هذه الشجاعة؟! يرون الموت رَأْيَ العين، ولا تبلغ قلوبهم الحناجر، بل تقول: هي لله، فداءً لدينه، ومن أجل الخلاص في يوم التحرير الذي يرونه قريبًا ونراه – لقلّة صبرنا – بعيدًا.

للدماء صوت، وللجراح فم، وللنزيف حسيسٌ، فكيف حدث هذا كله ولم ينهض لهم أحدٌ؟! كيف سقط هؤلاء الشهداء ولم يرفعهم أحدٌ غير الله وغير منزلتهم التي أُعدّتْ لهم في حواصل الطير في علّيّين؟!

في الحديث: “أن الرُّبَيِّع بنت النَّضْر، وكان ابنها حارثة بن سُراقة أُصيب يوم بدر؛ أصابه سهْمٌ غَرَبٌ فأتت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم فقالت: أخبرني عن حارثة، لئن كان أصاب خيرًا احتَسبْتُ وصبرْتُ، وإن لم يُصِب الخيرَ اجتهدْتُ في الدعاء؛ فقال النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: يا أُمَّ حارثة إنها جِنان في جنّة، وإن ابنكِ أصاب الفردوس الأعلى، والفردوس رَبْوة الجنة وأَوسطُها وأفضلُها”.. وهؤلاء من هؤلاء؛ أفلا يكون لتضحياتهم العظيمة هذه ثمن؟! أفلا يكون لموتهم المُريع هذا جزاء؟! بلى، وإنهم إن شاء الله لفائزون.

أما نحن؛ فكلنا عاجزون، لم يعد لنا مِن عَمَل سوى أن نعدَّ هؤلاء الشهداء، شهيدًا تلو شهيدٍ، نترحّم عليهم بكلماتٍ باردة، ونُعزّيهم بعباراتٍ فارغة.. لقد علموا أننا أقلّ من أن نحوز الشرف الذي حازوه، والمنزلة التي بلغوها، فتركونا وراء ظهورهم يتامى لا حول لنا ولا طَول، وتركوا الدنيا دُبُر أعقابهم وركلوها بأقدامهم؛ ذلك أنّهم خُلِقوا لحياةٍ غيرِ حياتنا، ورَنَوا إلى عالَمٍ غير عالَمنا؛ لقد صاروا إلى عالَمِ الحقيقة حيث تستقبلهم ملائكة الرضوان، وأما نحن فَرَكَنَّا إلى عالَم الزيف نتجرّع المرارة والفُقدان، ونعضّ على أكفّ العجز والخُذلان.

يا وائل، يا مَن فقدتَ زوجتكَ وأبناءك، وها أنتَ تفقد ابنًا جديدًا… يا مَن لم يُبقِ لكَ الاحتلال أهلًا ولا رَحِمًا، نحن رَحِمك ونحن أهلُك، نحن أبناؤك وإخوتك، إذا كنتَ تسمح بأن تمنحنا هذا الشرف… ويا شهداء غزّة الذين هم أحياء عند ربّهم يُرزَقون، لعلّ الله حين اصطفاكم علم أنّ نِعمةً خُوّلتموها أنتم لسنا نحن بها جديرين، فخُلِّفْنا من بعدكم في الهوان والعجز والضياع، وقُدِّمْتم إلى مقام العِزّة والجَلال والرِّضوان.

ولا أقول وأنا أرى نهر الدّم يتفجّر في كل حين، إلا ما قلتُ من قبلُ:

يـتسابـقـون إلى الشــهـادة حُـفّــلًا وكـأنــهــا وِرْدٌ إلــيــه ســاروا

أرأيــتَ قـــادة أُمَّـــةٍ أمــثــالَـهــم رَخُصَتْ على مَنْ باعها الأعـمارُ

بِـسُـقـوطِـنا نَعْـلو وهُـم بِـعُـلُـوِّهـم سقطوا، ونصمد والطغاة انهاروا

نِيـران أَهـل الكُفْـر جَـنّـَةُ مُـؤْمِـنٍ وجِـنـانُهـم يـوم الـقـيـامـة نــار

ولـذاك يهـوى الـموتَ طفلٌ ثائـرٌ إنّ الـردى فـي شَـرْعـه أقــدارُ

شـتّـان بـيـن عـقـيـدة لا تـنـحـني وعــقــيـدة عَــرّابُـهــا الــدولار

وسلامٌ عليكم أيها الشهداء الأبرار في الخالدين… سلامٌ عليكم إلى يوم الدِّين.

مدونة العرب

Exit mobile version