يحيى السنوار أديبًا وقائدًا.. قراءة في رواية “الشوك والقَرنْفُل”

د. سليمان صالح

لا يمكن النظرُ في رواية “الشوك والقرنْفُل” باعتبارها عملًا أدبيًا.. كاتبها نفسه، لم يكتبها لهذا الغرض، ولم يستعرض فيها قدراته التقنية في الحبكة والسرد والتشويق، لكنه تحرّى الصدق، والأمانة المعلوماتية، كما كان يفعل رواة الأحاديث، وإذا كنا لا نستطيع أن نقرأها فقط كعمل أدبي، فماذا يمكن أن نقرأ فيها؟
حسنًا، يمكننا أن نقرأ فيها رواية السنوار، أحداثَ وطنه، ومسيرتَه الشخصية والفكرية والوجدانية غير معزولة عما يمرّ به هذا الوطن وشبابه، وعما جربه فنجح فيه أو فشل.. هذا القائد الحمساوي – (الشاب الأسير) في ذلك الوقت- يخبرنا كيف وصلنا، وكيف وصل إلى هنا.

كتب السنوار روايته في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وحرص أن يستخدم لقب “الأسير” في تقديم نفسه، وهذا التعريف، وحده، يعد مدخلًا مهمًا لفهم رموز القصة، وما يعنيه من ورائها.

اللقب الذي يعرف به نفسه على الغِلاف هو جزء من قصة المعاناة التي ترويها صفحات “الشوك والقرنفل”، وهي معاناة يعرفها الكاتب ويعيشها ويصورها، ويعرفها زملاؤه الأسرى الذين اعتبروا الرواية مشروعًا يعبّر عنهم، فساهموا في نسخ الصفحات وتهريبها خارج السجن، ليكونوا بذلك قد شاركوا في تجرِبة مقاومة مبدعة، لتوصيل صوت أريد له أن يكون مكتومًا.

اختار إبراهيم أن ينضم إلى المقاومة، كما اختار أن يعمل في البناء كمهنة لكسب الرزق، ولا تخفى رمزية المهنة التي اختارها المناضل هنا، فهو رجل يختار البناء، وقيامه بأعمال المقاومة لا يتعارض مع ذلك، بل يدعمه

وبهذا الفعل التعبيري القادم من وراء الجدران عام 2004، حوّل السنوار – ومن ورائِه زملاؤه الأسرى الذين نقلوا الرواية للخارج- تاريخَ المقاومة إلى قصة حية تشكل مصدرًا مهمًا لقوة شعب فلسطين، الذي يقدم بدوره نموذجًا للكفاح طويل المدى، يتشارك فيه الأبطال مشاعرَ الحزن والأمل، وقصص الحب.

يمكننا أن نتلمّس في هذه الرواية – بعيدًا عن النقد الأدبي- ملامح القيادة لدى شاب يحمل قضية، يعيشها كأنه يراها حتى وهو في غياهب السجون، فهل يكون غريبًا أن يقود كاتب هذه الرواية كفاحَ شعب فلسطين للحريّة والتحرير؟
وأن يكون هو القائد الذي يواجه قوة جيش الاحتلال الإسرائيلي الغاشمة، ويقود ثورة العقول الفلسطينية للتخطيط الصبور طويل النفس لتطوير قوة المقاومة لتحقق انتصارات لم يتوقّعها العدو؟

أول ما نلاحظه في الرواية من ملامح القيادة في هذا العمل الروائي، أن الكاتب يمتلك خيالًا جغرافيًا، فهو يحرّك أبطاله على أرض وطنه، الذي يعرف خصائص كل شبر فيه، وما يميّز كل قرية أو مدينة، الوطنُ- الذي يناضل من أجله- مترابطٌ في خياله، لم يتمكن الاحتلال من تغيير معالمه التاريخية، فخيال الكاتب القائد يحتفظ بالخارطة الحقيقيّة للوطن التي تطوّرت عبر التاريخ.

هو أيضًا يملك خيالًا اجتماعيًا، وذاكرة تحفظ عادات شعبه وتقاليده، ومزاجه ومفاتيحه، ومكامن قوته وضعفه، وما يمكن أن يقوم به هذا الشعب إذا أُحسن توجيهه.
فهو يقدم كيف يتميز هذا الشعب بارتباطه بأرضه، وقدرته على تحمل المعاناة، وتكافله الاجتماعي، قدّم ذلك من خلال الأُسرة التي اختار أن تكون بطلة أحداثه، منطلقًا من مخيم الشاطئ ذي الظروف البائسة في قطاع غزة، ونحن نرى كيف صمدت هذه الأسرة في وجه المحنة، وإصرارها على التغلب عليها.

كما نرى كيف أنّ اختلاف الآراء والاتجاهات السياسية داخل تلك الأسرة لم يدفع جلّ أولادها للبحث عن حل فردي، يحققون به سعادتهم الشخصية على حساب أسرتهم، لم يفعل ذلك في أحداث الرواية إلا شخصٌ وحيد من أبناء الأسرة، فنبذه أفرادها وعملوا على التخلّص منه.

لا يجد قارئ هذه الرواية صعوبة في تفسير رموزها، فالأسرة هي الوطن، وأبناؤها أبناؤه، واتجاهاتهم الفكرية هي ما تمور به الساحة الفلسطينية من آراء واجتهادات، هدفها الأخير هدف واحد، والكاتبُ يستخدم روايتَه، من خلال بطلَيها أحمد (الراوي)، وإبراهيم (القائد الحمساوي المناضل)، ليشرح رؤيته الشخصية للواقع ولطبيعة المعركة وللحلول.. هو يخوض عبرهما حالة من النقاش السياسي والفكري مع التيارات الأخرى في المجتمع الفلسطيني، يسعى أن يشرح لهم فكرة ويوضحها، ويسوق الحجج لدعمها.

وهنا نلاحظ حضور السنوار صاحب الرؤية والقضية غالبًا على حضور الروائي.. الرواية بالنسبة له هي حكاية الوطن، وما يقوله فيها محاولةٌ لشرح رؤيته لأبناء الوطن: (الفلسطيني أولًا، ثم العربي والإسلامي ثانيًا)؛ لجمعهم وراءها.

لا يغرق الكاتب في تعقيد الحبكة أو السرد والأحداث؛ لأن الهدف هو وضوح الرسالة، والرواية هي القضية والرسالة.

ملحوظة أخرى تؤكد أن الرواية في الحقيقة هي رسالة للأمة (كل الأمة) لتفهم القضيةُ، كما يريد السنوار أن يشرحها.. فهو – وهو الدارس للغة العربية في الجامعة الإسلامية- اختار أن يستخدم الفصحى وحدها في السرد والحوار، وعندما يضطر لاستخدام اللهجة الفلسطينية، يعيد شرح التعبير باللغة العربية، وهذا في رأيي يعود إلى سببَين؛ الأول: أنه- وهو ابن الحركة الإسلامية الفتية في ذلك الوقت- يريد أن تصل رسالته إلى كل الجماهير العربية، فيشرح لهم ما قد يبهم عليهم، والثاني: أنه انعكاس لأصالته كقائد شاب (في ذلك الوقت)، ينتمي لحركة إسلامية تعتبر اللغة الفصحى من أهم مكونات الهُوية.

مجتمع يوظّف مصادر قوته:
تبدأ أحداثُ القصة بعد عام 1967، لتصوّر حياة أسرة في مخيم الشاطئ بغزة، في بيت تتساقط مياه الأمطار من سطحه على الأسرة في الشتاء.

الابن الأكبر (محمود) يدرس في مصر، ويعود مهندسًا، ينضم إلى حركة “فتح”، يسجن ويعذب بسبب ذلك، لكنه يقود المساجين في إضراب ينجح من خلاله في الحصول على بعض حقوقهم، ثم يخرج من السجن ليصبح رمزًا نضاليًا محبوبًا للأسرة، ولكنه يظل مدافعًا شرسًا عن رؤية “فتح” للحل، ولا سيما الحلول التي برزت في تلك الفترة التي شهدت اتفاق أوسلو.

الابن الأصغر (أحمد) هو راوي القصة، وهو يقلب نظره بين أخيه الذي يحمل أفكار “فتح”، وبين أفكار الحركة الإسلامية التي يحملها ابن عمه (إبراهيم)، ليتأثر في النهاية بأفكار الأخير، وينضم إلى حركة “حماس”.

وهناك (إبراهيم)، البطل الآخر للقصة، قيادي طلابي نشط يحمل أفكار الحركة الإسلامية، ويعرض رؤيتها على مدار الرواية بفعله وقوله.

اختار إبراهيم أن ينضم إلى المقاومة، كما اختار أن يعمل في البناء كمهنة لكسب الرزق، ولا تخفى رمزية المهنة التي اختارها المناضل هنا، فهو رجل يختار البناء، وقيامه بأعمال المقاومة لا يتعارض مع ذلك، بل يدعمه.. ظل كلام إبراهيم صادقًا ومؤثرًا وملهمًا على طول العمل، وقد اختار البقاء في غزة لا يفارقها، رغم العروض والإغراءات؛ لأنه يؤمن بقضية وطنه.

الأم الفلسطينية حاضرة أيضًا، فنحن نرى كيف تلعب أم محمود دورًا مهمًا في المحافظة على الأسرة، ودفع كل أفرادها لتحقيق النجاح، وهي تصر على أن تختار زوجات أبنائها، اللاتي سيصبحن جزءًا من أسرتها الممتدة بقَبولهنّ الزواج في غرفة واحدة من غرف المنزل، وتقاسم أعباء الحياة مع بقية أفراد الأسرة.

في مرحلة مهمّة من الرواية يخوض (محمود) الفتحاوي جدلًا مع ابن عمه (إبراهيم) حول جدوى مفهوم “التربية والإعداد” الذي تتبنّاه الحركة الإسلامية إستراتيجيةً لها، ثم نكتشف من أحداث القصة كيف نجحت تلك الإستراتيجية في إعداد كثير من الشباب لمقاومة الاحتلال، ولذلك يشكل هذا المفهوم مِفتاحًا لفهم كثير من الأحداث، ولفهم رؤية حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في نضالها من أجل تحرير فلسطين، كما أنه يساعدنا أيضًا في فهم كيف وصلنا إلى “طوفان الأقصى”.

.

.
الجزيرة

Exit mobile version