83 قاضياً عقائدياً.. الحوثيون يعيدون تشكيل القضاء اليمني لخدمة مشروعهم”

تقرير خاص


في خطوة تكشف عمق التحولات التي تضرب ما تبقى من استقلال السلطة القضائية في مناطق سيطرة الحوثيين، أصدر مجلس القضاء الأعلى في صنعاء — الخاضع للجماعة — قرارًا مثيرًا للجدل يقضي بتوزيع 83 من خريجي دورة “تأهيل علماء الشريعة” على عدد من المحاكم، تمهيدًا لتعيينهم في السلك القضائي. القرار، الذي وصفه المركز الأمريكي للعدالة (ACJ) بأنه “تجريف ممنهج للعدالة”، يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الاختراق الأيديولوجي للمؤسسات القضائية وتحويلها إلى أدوات طائفية تُدار بالعقيدة لا بالقانون.

القضاء كمنصة للولاء. لا للعدالة
بحسب مصادر قضائية في صنعاء، فإن هيئة التفتيش القضائي وزّعت الخريجين الجدد على محاكم في العاصمة وعدد من المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، بدعوى “سد النقص في الكوادر”. غير أن معظم هؤلاء الخريجين ليسوا من دارسي القانون، بل من طلاب الدورات الفكرية التابعة للجماعة، الذين تلقوا تأهيلًا شرعيًا موجّهًا أيديولوجيًا أكثر من كونه مهنيًا.
أحد القضاة السابقين في صنعاء، فضّل عدم ذكر اسمه لدواعٍ أمنية، قال لموقع الوعل اليمني إن “القرار لا يهدف لتطوير القضاء، بل لخلق قضاة يدينون بالولاء العقائدي للقيادة الحوثية، ويمتثلون لتوجيهات المكتب السياسي بدلاً من القانون”. وأضاف: “المحاكم اليوم تُدار بمنطق التعبئة، وليس بالمواد القانونية”.

تطهير إداري وتمكين طائفي
منذ سيطرة الحوثيين على مؤسسات الدولة عام 2014، خضع القضاء لعمليات “إحلال صامت”، شملت عزل عشرات القضاة الذين رفضوا العمل تحت سلطة الجماعة، واستبدالهم بعناصر موالية. ويشير مراقبون إلى أن هذه التعيينات الجديدة تأتي استكمالًا لما بدأته الجماعة من تطهير إداري شامل في الوزارات والهيئات، حيث يتم إحلال “الموثوقين فكريًا” مكان الكفاءات المهنية.
ويرى الباحث القانوني عبد الكريم أن “الخطوة الأخيرة تُمثل تتويجًا لمسار طويل من هندسة القضاء على أسس طائفية”، مضيفًا أن “ما يحدث ليس مجرد فساد إداري، بل مشروع ممنهج لتفكيك العدالة كقيمة مجتمعية”.

القضاء كدرع ضد المساءلة
يؤكد خبراء حقوقيون أن الحوثيين يسعون للسيطرة الكاملة على المنظومة القضائية لضمان الحصانة الذاتية في مواجهة أي مساءلة قانونية داخلية أو مستقبلية، خصوصًا مع تصاعد تقارير الانتهاكات الموثقة من قبل منظمات حقوقية محلية ودولية.
ويقول المحامي صادق حامد إن “الجماعة تعلم أن مستقبلها السياسي مرهون بتحييد القضاء، لذلك تسعى لإغلاق كل المنافذ القانونية التي قد تُستخدم لمحاكمتها, ويضيف: “القرار الأخير ليس إجراءً إداريًا بل تحصين سياسي، فكل قاضٍ جديد هو بمثابة درع أيديولوجي يحمي القيادة من أي مساءلة”.

العدالة في زمن “الولاء لم تعد العدالة في صنعاء تُقاس بنصوص القانون، بل بمدى القرب من الجماعة. القضايا التي تمسّ قيادات الحوثيين تُغلق بسرعة، بينما تُفتح ملفات طويلة لمعارضين وصحفيين وناشطين بتهم “الخيانة” أو “العمالة”. ويقول أحد المحامين العاملين في صنعاء: لموقع الوعل اليمني “حتى أبسط الدعاوى المدنية تُدار بمنطق سياسي. هناك تعليمات غير مكتوبة تُحدد من يُدان ومن يُبرّأ، في مشهدٍ يُعيدنا إلى عصور التفويض الإلهي.
النتيجة، بحسب تقارير المركز الأمريكي للعدالة، هي انهيار ثقة المواطنين في القضاء، وتحول المحاكم إلى أدوات قمع لا مؤسسات إنصاف.

خدمة المشروع الطائفي
يهدف الحوثيون من خلال هذا التعيين إلى إعادة تعريف القانون من الداخل. فحين يتحول القاضي إلى “داعية”، يُصبح القانون تفسيرًا لمصلحة الجماعة، لا معيارًا للحق والباطل.القرار يعكس تحولًا استراتيجيًا في طريقة إدارة الحوثيين للسلطة: من السيطرة العسكرية إلى إعادة تشكيل البنية الذهنية للدولة عبر التعليم، القضاء، والمناهج الدينية.
وهكذا، لا يُراد فقط ضبط السلوك القانوني للمجتمع، بل إعادة صياغة الوعي العام بالعدالة وفق المفهوم العقائدي للجماعة.

العدالة في اليمن اليوم تمرّ بأخطر مراحلها، إذ لم تعد تُهدّدها الفوضى فقط، بل مشروع منظم لإعادة بنائها على أساس أيديولوجي. خطوة تعيين “خريجي الدورات الشرعية” في سلك القضاء ليست حدثًا عابرًا، بل جزء من عملية تجريف عميقة تهدف لشرعنه السيطرة الحوثية عبر مؤسسات تبدو قانونية في الشكل، لكنها طائفية في الجوهر.وبينما يلتزم المجتمع الدولي الصمت، تُطوى صفحة جديدة من القضاء اليمني لتُكتب بلغة العقيدة لا القانون… ولتصبح العدالة مجرّد شعار في دولة تُدار بالولاء لا بالحق.

Exit mobile version